لاشك أن الزواج هو أسمى الروابط الإنسانية التي سنتها الأديان السماوية وصدقت عليها الأعراف ونظمتها لتتفق مع الفطرة، وكغيره من أمور الحياة يحتاج الزواج إلى التدقيق والتفكير ووضع الأسس السليمة التي تستقيم بها هذه الشركة، حتى لا تشكل مصدر تعاسة أو ضررا لأطرافها.
ومن هنا يكون الاهتمام أولاً بالاختيار المناسب الذي يتطلب مراعاة نقاط عدة، منها الدين والخلق والتكافؤ الاجتماعي، وأهمهم التوافق الطبي الذي لم يكن له اهتمام كبير في الماضي مع أنه يؤثر في استقرار الحياة الزوجية وسلامة إنجاب الأطفال وخاصةً عند التفكير في زواج الأقارب الذي يعد السبب الأول لتخلّف الأبناء، وإصابة المواليد بتشوهات جسدية وعقلية. ويسهم الزواج بين الأقارب في زيادة احتمال ظهور العيوب والأمراض الوراثيّة التي تحملها صفات متنحّية عند الأجيال، وذلك لأنّ احتمال وجود الصّفة المرضيّة لدى كلا الأبوين وارد وكبير لصلة القرابة الموجودة بينهما، وترجع أهمية هذا الموضوع إلى أن زواج الأقارب مفضل في بعض المجتمعات وخاصة الشرقية، وذلك لأسباب كثيرة منها الرغبة في الاحتفاظ بالثروة داخل الأسرة، وصغر السن عند الزواج، وقد تحتم بعض العادات والتقاليد في بعض القبائل العربية ألا تتزوج البنت إلا من ابن عمها.
زواج الأقارب
ويعتبر قرار زواج الأقارب من أهم القرارات في حياة كل شاب وفتاة، وإذا أحسن كلاهما اتخاذ القرار يكون قد نجح في تحقيق حياة أسرية سعيدة بقية عمره وإنجاب أطفال أصحاء يتمتعون بالعافية والذكاء،
فمثلما يورّث الآباء أبناءهم الصفات الوراثيّة العاديّة مثل لون العينين أو شكل شحمة الأذن، فإنّهم يورّثونهم أيضاً صفات مرضيّة تسبّب إصابتهم بعيوب وعاهات وأمراض وراثيّة.
ويمكن توضيح الأساس العلمي من المنظور الطبي لمعرفة كيفية انتقال الأمراض الوراثية من الآباء إلى الذرية، فبحسب مصادر طبية متخصصة تتكون منطقة الرحم من أمشاج الذكر والأنثى، وتحمل تلك الأمشاج العوامل الوراثية من الأبوين، وهكذا تنتقل الصفات الوراثية من الآباء إلى الأبناء والأحفاد إلى ما شاء الله، وكل ذلك في نظام متقن بديع يدل على قدرة الخالق البارئ المصور تبارك وتعالى.
العوامل الوراثية
وتكون العوامل الوراثية في معظمها إما "سائدة أو متنحية"، فالعامل الوراثي السائد هو من له القدرة على الظهور والتعبير عن نفسه، بينما لا يستطيع العامل الوراثي المتنحى ذلك إلا إذا اجتمع مع عامل وراثي متنح مماثل تماماً، حينئذ تظهر الصفة الوراثية التي يحملانها معاً، وبوجود العوامل الوراثية السائدة والمتنحية التي تحمل الصفات الوراثية، تظهر تلك الصفات في الأبناء، فمنهم من يشبه الأم، ومنهم من يشبه الأب أو العم أو الخال.
ومن هنا نشأت قاعدتان من قواعد علم الوراثة تشير إلى أن معاني الأحاديث الشريفة الواردة في الأثر الإسلامي عن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، مثل الحديث القائل: "تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس"، و"اغتربوا لا تضووا"، يعني أي تزوجوا الأغراب حتى لا تضعف الذرية.
عوامل أخرى
ولكن ليس معنى ذلك أن نلقى المسؤولية على زواج الأقارب في حدوث الأمراض الوراثية أو الإعاقات والعيوب الخلقية وإنما هناك عوامل أخرى قد تدخل طرفاً في هذه المشكلة، فزواج الأقارب يعطي الفرصة لزيادة الأمراض الوراثية في الذرية "ليس قولاً صحيحاً في كل الأحوال.. قد يكون صحيحاً في حالات معينة، وبالتالي لا ينبغي أن يكون قانوناً عاماً أو قاعدة عامة".
وهناك بعض الحقائق الأساسية في هذا الموضوع :
زيادة نسبة ظهور الأمراض الوراثية في الذرية الناتجة من العوامل الوراثية المتنحية من كلا الأبوين ليست معتمدة على زواج الأقارب في كل الأحوال ولكنها تعتمد أساساً على مدى انتشار العامل الوراثي المرضي المتنحي بين أفراد المجتمع ككل.
فظهور بعض الأمراض الوراثية في الذرية في المجتمعات التي تنتشر بين أفرادها العوامل الوراثية المرضية المتنحية انتشاراً نحو 1:8 تتساوى نسبة ظهورها في الذرية في زواج الأقارب وزواج الأبعاد على حد سواء.
وهناك فرض آخر، إذا كانت نسبة انتشار العامل الوراثي المرضي المتنحي في المجتمع أكثر من 12 % وكانت أسرة في هذا المجتمع نقية وراثياًُ في هذه الحالة فإن الزواج بين الأقارب في هذه الأسرة أفضل كثيراً وأكثر ضماناً من زواج الأبعاد.
جوانب إيجابية
إذا كانت بالأسرة عوامل وراثية مرغوبة ليست في غيرها من الأسر، مثل صفات الجمال والذكاء والقوة أو طول العمر وغيرها، حينئذ يكون زواج الأقارب أفضل من زواج الأبعاد، بشرط ألا يستمر الزواج بين الأقارب جيلاً حتى لا تتحول الأسر إلى مجتمعات صغيرة مغلقة، وهو ما ثبت وراثياً أنه مضر.
وهكذا تتساوى الاحتمالات في زواج الأقارب والأبعاد في هذه الحالات وسواء كان هذا أم ذاك، فالرسول صلى الله عليه وسلم أمرنا بالتخير إذ قال "تخيروا لنطفكم" والتخير في عصرنا الحاضر أساسه الاستشارة الوراثية.
لا يوجد إطلاقاً نص صحيح ينهى عن ذلك، وحديث "غربوا النكاح" لا يصح، وقد تزوج النبي-عليه الصلاة والسلام- من ابنة عمته زينب، والآية في القرآن صريحة: "يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي أتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك..." (الأحزاب: 50)، وبينت سورة النساء الآية 23-24 المحرمات حصراً؛ فما عدا ذلك من الأقارب فهو جائز قطعاً، وهذا لا يمنع أن يفضل التقليل من زواج الأقارب حفظاً على اتساع العلاقات والمصاهرة، وخشية أن تترسخ بعض الصفات الوراثية السلبية؛ فيكون من باب التفضيل وليس من باب التحريم. وزواج الأقارب لم يرد النهي في الشرع عنه، ولا الأمر به ، وإنما ترك الأمر للإباحة ، حتى تدرس كل حالة على حدتها ، فربما كان الأنسب أن يتزوج الرجل من قريبته، فربما كانت هناك اعتبارات اجتماعية ترجح الزواج مع القرابة، وربما كان الزواج من الأقارب يفضي إلى قطع الرحم، أو زيادة المشاحنات بين الأقارب، إن كان يعرف عن العائلة أن الود بينهم غير مستقر. وقد أباح الدين له الزواج من بنات العم والعمة، والخال والخالة، وهي من أدنى الدرجات قربا، فعرفت الإباحة.
أسباب الأمراض
وهنا يتبادر إلى الأذهان سؤال هام لماذا يتعرض الجنين للإصابة بالأمراض؟
أن من أهم أسباب تعرض الجنين للإصابة بالأمراض ما يأتي:
زواج الأقارب وعدم المتابعة الصحية السليمة للحمل وتناول الكيماويات، سواء عن طريق الأدوية أم الطعام أم التغيير الجوي والبيئي.
كثرة تعرض الأم لبعض الالتهابات في الرحم، والتي تحتاج لعلاج سريع وتؤثر في سلامة الحمل واستقراره.
عدم إجراء فحوصات الوراثة عند حدوث إجهاض أو تأخير الحمل.
التعرض للأشعة خلال الفترة الأولي من الحمل قد تسبب الإجهاض، وتؤدي إلى إصابة الجنين بأضرار خطيرة. ولذا ينصح الأطباء بالحرص على ممارسة الرياضة بانتظام والكشف الدوري عند الطبيب، وتناول غذاء متوازن والإكثار من الخضراوات والفواكه والابتعاد عن الملح، بالإضافة إلى تجنب تناول مادة الكافيين المتمثلة في الشاي والقهوة والنسكافيه والمياه الغازية،
التي تؤثر في تكوين العظم وامتصاص الكالسيوم وقد تؤدي إلى هشاشة العظام، مع الإكثار من تناول الألبان ومشتقاتها حتى قبل الحمل وأثناء فترة الرضاعة.
نستخلص مما سبق أن زواج الأقارب أحد الأسباب المؤدية للأمراض الوراثية والعيوب الخلقية وليس السبب الوحيد حيث تتكاثف عدة عوامل للوصول لهذه المرحلة لذلك وطبقاً لمقولة "الوقاية خير من العلاج"، لماذا لا يقوم الزوجان بإجراء الفحص الطبي قبل إتمام الزواج لأنه كما ذكرنا من قبل ليس معنى أن الزوجين أقارب أن النتيجة الحتمية هي الإعاقة أو المرض.
ومع تطور الهندسة الوراثية قامت دعوة قوية لإلزام الناس بالفحص الطبي قبل الزواج وتقديم الاستشارة الوراثية اللازمة للزوجين، فهناك أمراض وراثية تنتشر في بعض المجتمعات وحامل الجين المعطوب لا يكون مريضاً بالضرورة إنما يحمل المرض وتعاني ذريته (أو بعض ذريته) إذا تزوج من امرأة تحمل الجين المعطوب ذاته، فهناك احتمال أن يصاب ربع الذرية بهذا المرض الوراثي حسب "قانون مندل".
ورغم خطورة الأمراض الوراثيّة وآثارها السّلبيّة على الفرد والمجتمع، فإنّ الوقاية منها وتفادى ظهورها وانتشارها ممكن، شرط الوعي بضرورة ذلك، وبناء على أن "الوقاية خير من العلاج"، دعا الأطباء إلى ضرورة تبني الاستشارات الوراثية قبل الزواج وقبل الحمل، واعتماد التثقيف الصحي فيما يخص زواج الأقارب، كجزء من برنامج الصحة الإنجابية في المدارس الإعدادية والثانوية
جريدة المستقبل العراقي