لشَبَكَةِ اللغةِ أثرٌ عَميقٌ في التَّواصُلِ بين الكاتبِ والقارئ؛ ففيها حَظٌّ كَبيرٌ من هذه المرآةِ التي تصلُحُ أن تَكونَ حَدْباءَ أو قَعْراءَ؛ لأنّ عالَم الكاتبِ وما فيه من أسرارٍ وذكرياتٍ وأفكارٍ ومَشاعرَ، لا يُقدَّمُ للقارئِ إلاّ بمُعجمٍ من الألفاظِ المُنتَقاةِ بأسلوبٍ دَقيقٍ و بنَظمٍ لُغويّ مَخْصوصٍ، وبصُوَرٍ أدبيةٍ مُختارةٍ.
فإذا كانَ عالَمُ الكاتبِ عالَمَ أفعالٍ ومَشاعرَ وتَجارِبَ، فهوَ أيضاً عالَمُ تَسْمياتٍ وألفاظٍ ومُصطَلحاتٍ، تتَغشّى المَوْصوفاتِ فتمنَحُها واقعاً مَرئياً مَقْروءاً، والكاتبُ يتقدّمُ إلى القارئِ، أو يُقدّمُ نفْسَه إليه، على طَبَقٍ من لُغةٍ، فمَطيّتُه الألفاظُ والتَّراكيبُ والمَجازاتُ والاستعاراتُ، ولعلَّ السَّببَ في ذلِكَ أنّ رُتبةَ الوُجودِ التي يتمتّعُ بها اللّفظُ –في وَهْمِ المُتكلّمِ- أرْقى وأكثرُ واقعيّةً من رُتبةِ وُجودِ الشّيءِ، وأنّ «العالَم الإنسانيّ ليسَ عالَمَ إحساساتٍ ورُدودِ أفْعالٍ بَل هو عالَمُ أفكارٍ وتَحْديداتٍ لفظيّةٍ» (1)؛ وذلِك لأنّ الكلمةَ تخْلَعُ على الشيءِ ذاتيتَه ووُجودَه (2)، وتُتيحُ للإنسانِ الانتقالَ من حالَةِ الاضْطرابِ والفَوْضى إلى حالةِ النّظامِ، وأن يتصرّفَ بالكلمةِ من بُعْد، وهو مُنفصلٌ عن عالَم الأشياءِ، يُقلِّبُ العالَمَ كيفَ يَشاءُ، فيُحَسِّنُ القَبيحَ باللّغةِ إذا أرادَ، أو يُقَبِّحُ الحَسَنَ، فرُبّ قُبْحٍ عندَ شخصٍ هو حُسنٌ عندَ غيْرِه، وقد يكونُ وهماً عندَ ثالثٍ.
وباللُّغةِ أيضاً يُركِّبُ من القِطَعِ المُتَباعداتِ بناءً مُتّسقاً وعالَماً متحضّراً؛ إذْ يُحوّلُ التّجارِبَ والأفكارَ والذّكرياتِ إلى عالَمٍ من المَقالاتِ، ومهمّةُ تلكَ المَقالاتِ والعباراتِ أنّها تؤلِّفُ بين الأشياءِ وتُركِّبُ وتُعدِّلُ وتُقدّمُ وتؤخِّرُ. فالكلمَةُ قُوّةٌ نافذةٌ مؤثّرةٌ ومُغيّرةٌ قبْلَ أن تَكونَ مُجرّدَ تسميةٍ مَوضوعيّةٍ، وحَقيقَةُ الكلمةُ قائمةٌ في ذاتِ الكاتبِ أكثرَ منْ مُثولِها في ذاتِها، فهي مُتلبِّسةٌ بِذاتِه مُتحرّكةٌ بحركتِه ساكنةٌ بسُكونِه، إنّها فعلٌ قبلَ أن تَكونَ قولاً، وتَحملُ دلالةَ الفعلِ قبلَ أن تَكونَ أصْواتاً تَذهبُ أدْراجَ الرّياحِ.
وعندَما نَقولُ إنّ الكلمةَ تحملُ مَعْنىً مُعجمياً لازماً لَها عندَ إطلاقِ اللّفظِ، فهي لا تُغيِّبُ عن أذهاننا أنّها تَخرجُ عن هذا الوَضعِ الدّلاليّ إلى أوضاعٍ أخرى فتَبْدو جَديدةً كلّما تكلّمَ بِها متكلّمٌ أو استعْمَلَها مُستعملٌ. بَل تجدُ المتكلّمينَ بلغةٍ من اللّغاتِ يُهرَعونَ إلى الكناياتِ عَمّا يُستهْجنُ ذِكرُه ويُستقبَحُ نشرُه، أو يُستَحْيا من تسميتِه، أو يُتطيَّرُ منه، أو يُصانُ عنه، بألفاظٍ مَقْبولةٍ تُفصحُ عن المَعْنى وتُحسِّنُ القَبيحَ وتُلطِّفُ الكَثيفَ، في مُذاكَرَةِ ذَوي المُروءَةِ، فيَحْصُلُ المُرادُ مَع العُدولِ عَمّا يَنْبو عنه السّمعُ ولا يأنسُ بِه الطَّبْعُ، إلى غيرِه ممّا يَقومُ مَقامَه مع زيادَة في الحَياءِ والحُسْنِ.
فهذه حَقيقةٌ من حَقائقِ الكلماتِ والألفاظِ والعباراتِ وغيْرِها من الأدواتِ اللّغويّةِ التي يتوسّلُ بِها المتكلّمُون وحَمَلَةُ الأقْلامِ، لكي يُسمُّوا أحوالَهُم الشّعوريّةَ وذكرياتِهم الماضيةَ بأسماءٍ معيَّنَةٍ، فيَسِمُوها بميسَمِ اللّغَة، ويُخرِجُوها من إبهامِ النّفسِ والزّمنِ الغابِرِ إلى وُضوحِ الكلماتِ.