تُرى، أ ستنْفَدَ الأدبُ العربيّ في كلّ عصرٍ أو في عصرٍ مّا من عُصورِه، جَميعَ ما وَرَدَ في لسان العربِ من ألفاظٍ وأساليبَ وصُورٍ، أم لم يَستعملْ من خزّانِ اللغةِ إلاّ أقلّه، وبقيَ من ألفاظِ اللغةِ شيءٌ كثيرٌ جداً ممّا لم يَشملْه الاستقْراءُ والإحصاءُ الدّقيقُ ؟
الغالبُ أنّ الأدبَ العربيَّ في سائرِ أعصُرِه لم يَستَنفِدْ من مُعجَم اللّسانِ إلاّ أقلَّه، على ما في هذه القلّةِ نفسِها من كلماتٍ مُستحدَثةٍ أمْلتْها ظروف العصرِ و مواكبَةُ الجَديدِ، ممّا تيسّرَ للأدباءِ والنّقّادِ أن يطّلعوا عليْه. فليسَ المُرادُ بالقلّةِ المَذكورةِ القلّةَ على وجه الحقيقةِ، ولكنّ المُرادَ الكنايةُ عن عَدم الإحاطَةِ وتعذُّرِ الحَصرِ والاستقصاءِ .
ويُشبه أمرُ القلّةِ هذا، ما رُويَ عن أبي عَمْرو بن العَلاءِ في مَقالةِ ابن سلاّم الجُمَحي الشَّهيرَة؛ قالَ يونس بن حبيب: قال أبو عمرو بن العلاء: ما انتهى إليكُم مما قالتِ العَربُ إلا أقلُّه، ولو جاءَكم وافراً لجاءَكم علمٌ وشعرٌ كثيرٌ. [طَبَقات فُحول الشعراء، محمّد بنُ سَلاّم الجُمَحي (ت.231هـ) تحقيق محمود شاكر، مط. المَدَني، القاهرة، 1400هـ-1980م، السفر الأول، ص:25]
* فقَد راجَعَ النّقّادُ ما بينَ أيديهم من شعرِ العربِ وأدبِهم بعد أن هلَكَ بالموتِ والقتلِ الرّواةُ والحَفَظَةُ، فَلَم يَؤولوا في مراجَعاتهِم إلى ديوان مُدوَّن ولا كتابٍ مكتوب، وألْفَوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل، فحفظوا أقل ذلك، وذهب عليهم منه كثير.
* ثُمّ ثمَّةَ سببٌ آخر للقلّةِ المَذكورَة: وهو عَمّا وَرَد عن العربِ من أدبٍ وشعرٍ؛ فإنّ العَربيَّ الفَصيحَ كان يتكلّمُ بالشيءِ مخالفاً لِما عليه الجُمهورُ، فينفردُ بذلِك القدرِ الذي قالَه، مما يقبَلُه القياسُ، وإن لَم يَردْ به استعمالٌ إلا من جهة ذلك المنفرِد، فأحسَن الظّنَّ به العُلَماءُ والرّواةُ، عَلى ما رَواه ابنُ جنّي في الجزء الأولِ من الخَصائص، في: باب فيما يَرِدُ عن العربيّ مُخالفاً لِما عليه الجُمهورُ،
وعلّةُ قَبولِه وإحسانِ الظّنّ به أنّه قد يكونُ ذلك وقعَ إليه من لغةٍ قَديمةٍ قد طالَ عَهدُها، وعفا رسمُها.
* ثمّ سببٌ ثالثٌ في القلّةِ: هو الاقتصارُ على المَشهورين: فمنهَجُ ابن سلاّم الجُمَحيّ في كتابِه الطّبَقاتِ أنّه اقْتصَرَ في ذكْرِ العَرب وأشعارِها على المشهورينَ المَعروفينَ من شُعَرائها وفُرسانِها وأشرافِها وأيّامها؛ إذ كان لا يُحاطُ بشعرِ قبيلةٍ واحدةٍ من قَبائلِ العربِ، فاقتَصَرَ من ذلِك على ما لا يجهَلُه عالمٌ ولا يستغني عن علمِه ناظرٌ في أمرِ العربِ وأشعارِها .
فتلكُ أسبابٌ ثَلاثةٌ تبيّنُ أنّا لم نحصلْ إلاّ على نسبةٍ يسيرةٍ جداً من هذا الأدب الفَصيحِ الذي هو خَزّانُ لسانِ العَرَبِ وديوانها ومَجْمَع أخبارِها وأيامها ومَحاسنِ كَلامِها. فإذا كان ذلِك كذلِك فإنّ كلَّ عصرٍ يختصُّ عن سالِفِه بنسبةٍ من الأدب والكلماتِ والمُعجَم الفَصيحِ، أيْسَرَ وأقلَّ ممّا اشتهرَ قبلُ وحفظَه ديوانُ كَلامِ العربِ ومَعاجمُهُم الضّخمَة وجَمْهراتُ أشعارِهم