جدارية في المكسيك من أرشيف الفنان غوستافو تبرز الكوفية الفلسطينية وما تمثله من مقاومة



"الأزتيكي الجيّد هو الأزتيكي الميت"، هكذا تكلم الكاتب المكسيكي خوان بيورو حينما حاورته قبل ثلاث سنوات عن وضع السكان الأصليين في المكسيك، واستخدمها ليصف كيف تنظر حكومة بلاده للسكان الأصليين المنحدرين من شعوب المايا والناواتل والأزتيك.
قال حينها في حديث خاص "تفخر المكسيك بموروث تلك الشعوب وما خلفته من آثار، لكنها تهمش أبناءهم الحاليين".
وهي عبارة تذكرنا بتلك التي استبدل بها الاحتلال الإسرائيلي شخصية "الفلسطيني" بـ"الأزتيكي"، مما يجعل من المقارنة والبحث عن ماهية التقارب بين الشعبين الفلسطيني والسكان الأصليين عامة -وفي المكسيك بشكل خاص- موضوعا لافتا.
تناول إشكالية التقارب الباحث الفلسطيني منير العكش في كتابه "دولة فلسطينية للهنود الحمر"، وتعددت قراءاته، إذ رأى البعض أنه يقارب بين الشعبين، بينما عبر العكش في أحد حواراته أنه لم يعمد إلى عقد مقاربة بين الشعبين، إذ تختلف ظروفهما التاريخية والجغرافية والثقافية ويختلفان في نمط الحياة، وأن في المقاربة بينهما ظلم لكليهما.
أما في الأدب فقد عكست قصيدة الشاعر الفلسطيني محمود درويش "خطبة الهندي الأحمر" جزءا من هذا التقارب، بيد أنه تقارب مثير للجدل بين الفلسطينيين أنفسهم. فقد ردد الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات عبارة "لسنا هنودا حمر"، بمعنى أننا لن نشبههم في مصير الإبادة، بينما يرفض البعض مقارنة الفلسطيني بالهندي الأحمر، بوصف الأخير"أقليّة".
على الضفة الأخرى، ترفض الباحثة في كلية وليامز بالولايات المتحدة أمل إقعيق أن يصنف "الهنود الحمر" على أنهم أقليّة، وتشير إلى أن هذا وصف استعماري، واستخدمت مصطلح "تأقيل" لتشرح العقلية الاستعمارية التي تجعل من هؤلاء أقلية في أراضيهم.
وجاء رأي إقعيق -للجزيرة نت- نتيجة تجربتها الشخصية كفلسطينية تحمل جواز سفر إسرائيليا وتُعامل كفلسطينيي الداخل مثل أقليّة في بلادهم، وترى أن من الجائر استخدام عبارة "الهنود الحمر" لوصف أهل البلاد الأصليين، والأفضل تسميتهم "الأصلانيين" أو "الشعوب الأصلية"، مع التأكيد على أنه حتى هذا المصطلح هو نتاج للغزو الاستعمار الاستيطاني، فتلك الشعوب كانت تعرف بأسماء حضارتها وقبائلها كقبائل المايا والأزتيك.


‪أمل إقعيق ترفض وصف الهنود الحمر بالأقلية وتشير إلى أنه وصف استعماري‬


صمود التاريخ

تجبرك محاولات المقاربة الأدبية على الإطلال على تاريخ الشعبين قبل عقد المقاربات. ومن المفارقات أن قرار تقسيم الأراضي المكسيكية جاء عام 1848، أي قبل نحو 100 عام من قرار تقسيم الأراضي الفلسطينية عام 1947.

أنهت اتفاقية غوادالوبي هيدالغو الحرب الأميركية المكسيكية، وقضت بتنازل المكسيك عن جزء كبير من أراضيها، من بينها كاليفورنيا ونيو مكسيكو ونيفادا وأريزونا وتكساس.
على إثر هذا التقسيم انقسمت العائلات المكسيكية وصار لها قومية جديدة، بيد أن دولتي الاحتلال (الولايات المتحدة وإسرائيل) لم تتمكنا من القضاء على العناصر الثقافية لكلا الشعبين، فما زال فلسطينيو الداخل يتحدثون العربية، بينما تعتبر الإسبانية هي اللغة الأم في الأراضي التي كانت يوما جزءا من المكسيك.
ففي الشمال المكسيكي تتقاطع ظروف الشعبين الفلسطيني والمكسيكي من ناحية تقسيم الأراضي وإنشاء الجدران العازلة وفصل الحدود.
وفي الجنوب المكسيكي -وتحديدا في مقاطعة تشياباس- تصبح المقاربة أكثر وضوحا، إذ ما زالت شعوب المايا تتحدث لغاتها الأصلية وتمارس تقاليدها وعاداتها في مقاومة مستمرة لم تنهها 500 عام من الاحتلال الإسباني، بل إن بعضهم -حتى اليوم- لا يتحدث الإسبانية، وهو ما أطلق عليه مصطلح "الصمود" المترجم حرفيا عن لغة التسوتسيل المنحدرة من لغات المايا.
ظلت تلك الشعوب مهمشة من قبل الحكومات المكسيكية وعوملت بعنصرية شديدة حتى جاء عام 1994، ليشكل مفاجأة لحكومة المكسيك والعالم، فقد انتفض السكان الأصليون مشكلين جيش "الساباتيستا" المنسوب للثائر المكسيكي إيميليانو ساباتا.
غيرت تلك الانتفاضة نظرة الآخرين للشعب "الأصلاني" حتى في الأدب المقارن، واعترف بأدبهم وثقافتهم وصمودهم رغم حرق الإسبان الكثير من كتبهم ومخطوطاتهم، فيما يمكن تسميته بالنكبة الثقافية.
الفرق بين أدبهم والأدب الفلسطيني في التفاصيل لا الجوهر، فالأدب الفلسطيني ينتمي لجغرافيا ثقافية أوسع ويُكتب بعربية يفهمها من هم خارج حدود فلسطين، أما أدب المايا فيكتب بلغات كثيرة.

الأدب شمالا وجنوبا

في رسالتها البحثية للدراسات العليا، قاربت إقعيق ما بين رواية "المتشائل" للكاتب الفلسطيني إميل حبيبي والكاتبة المكسيكية الأميركية "غلوريا أنزالدوا" مؤلفة كتاب "المناطق الحدودية".

إميل حبيبي من أوائل الكتاب الفلسطينيين الذين تناولوا إشكالية حمل الجنسية الإسرائيلية التي فرضت على الفلسطينيين وجعلتهم أغرابا في بلادهم. أما أنزالدوا فهي من تكساس، الولاية التي لم ينقطع حبلها السري عن بلدها الأم، المكسيك.
في أحد مقاطع المتشائل لإميل حبيبي نمر على النص التالي: "وبقيت، وأنا في صور فيما بعد لاجئا، أتوق إلى زيارة الدالية على الحدود، حتى سمعت الدكتور عشيق أختي، يوما يقول: أصبح الفلسطينيون لاجئين تنفر البنات منهم، فتحولت نحو اللاجئات، فاللاجئات للاجئين. فوجدتهن، على غير حالتنا، مشتهيات، فانشغلن عنا، فعدت إلى دولة إسرائيل وأنا عطشان".
وفي قصيدة "العيش على الحدود"، تقول غلوريا أنزالدوا: "على الحدود، أنتِ ميدان المعركة، حيث ينصهر الأعداء معا، أنتِ في البيت، غريبة، حُلَّت خلافات الحدود، لكنّ إطلاق الرصاص فجر الهدنة، أنتِ جريحة، تائهة، ميتة، تقاومين".
عملت إقعيق على المقارنة بين النصين الأدبيين وفق "نظرية الحدود"، فتلك الشعوب التي انقسمت عائلاتها واضطرت لحمل جنسية البلد المحتل، لم تستطع عبور الحدود بل عبرتها الحدود.
يظهر ذلك جليا عبر اختراق الامتداد الثقافي والتاريخي واللغوي للحدود، وقد ميز حبيبي وأنزالدوا -بحسب إقعيق- خطابهما التاريخي، موضحين أنهما ليسا مهاجرين بل من الشعوب الأصلية، وهو ما عمق فكرة المقاربة، مع التأكيد على الاختلافات السياسية والمصائرية.


مقارنة التجربة

تتقاطع تلك التجربتان مع تجربة إقعيق التي عانت -كنظرائها- من عنصرية الدولة المحتلة، ومن اعتبارها مواطنة من الدرجة الثانية.

وتعتبر أن نظرية الحدود تنطبق على دراسات الأدب المقارن فيما يتعلق بالأجناس الأدبية عامة، فالأدب المقارن لا يحصر نفسه في النص المكتوب فقط، بل "يعبر الحدود" ليشمل النص الشفوي والفنون البصرية والرقص الشعبي وغيرها.
وترى أن من الخطأ الاكتفاء بالجانب النظري في موضوع الأدب المقارن، فهو لا يعتمد -بحسب نظريات الأدب الحديثة- على ما هو مكتوب فقط، بل -والكلام لإقعيق- "المطلوب من المتخصص في الأدب المقارن أن يتقن أكثر من لغة وأن يتعمق في دراسات الأنثروبولوجيا وأن يتقن الترجمة، ويقود الأدب المقارن الباحث لرؤية الأدب عامة بأبعاد مختلفة ويتقن التشبيك مع الثقافات الأخرى".
وتتابع أن دراسة هذا التخصص جعلها ترى فلسطين من زاوية الأدب العالمي وليس العولمي، وترفض الحديث عن أدب السكان الأصليين الذين أقامت بينهم فترة ودرست مساقات في لغتهم الأصلية "التسوتسيل"، بوصفهم حضارة ميتة تحاول القيام من موتها.
إنما هم "حضارة تعرضت لنكبة منذ 500 عام وما زالت نكبتهم مثل نكبتنا، مستمرة، فرغم حرق الإسبان كتبهم وتغيير دينهم ومحاولات محو اللغة، فقد ظلوا صامدين، ويجدر بنا اعتبارهم حضارات حية مشاركة، لا حضارات منقرضة".