أكثر من ألف نوع معروف من دببة الماء تستوطن جميع البيئات (ويكيميديا كومنز)
لا تكاد قطرة واحدة من الماء أن تخلو من حياة، فثمة فيروسات وبكتيريا وفطريات وحيوانات أولية وحيدة الخلية، فضلا عن أكوان كاملة تعجز عيون البشر المجردة عن رصدها، لكنها تمتلئ بكائنات من أعجب ما يكون.
المخلوق الأكثر غرابة
وربما لا يعيش في هذه الأكوان المائية المصغرة مخلوق أكثر غرابة من ذلك الحيوان المجهري المسمى بدب الماء، الذي قد يشبه فعلا الدب أو الخنزير (من أسمائه الأخرى خنزير الطحالب).
لكنك إذا كنت قد شاهدت رسومات وأفلام ألِيس في بلاد العجائب ورأيت تلك اليرقة الجالسة على فطر عش الغراب تدخن النرجيلة، فقد رأيت أقرب الأشياء شبها بدب الماء، غير أن دب الماء الذي يعيش معنا في الحقيقة هو أكثر إثارة للعجب -بما لا يقاس- من كل شيء رأته ألِيس في بلاد العجائب!
فحتى وقت إعلان نتائج الدراسة التي نشرت أخيرا بدورية "ساينتفك ريبورتس"، لم يكن العلم يعرف طريقة للقضاء على هذه المخلوقات التي لا يكاد طول الواحد منها يبلغ الملليمتر!
هناك أكثر من ألف نوع معروف من دببة الماء، تستوطن معظم المسطحات المائية من أعماق المحيطات إلى الصحاري الجليدية القاحلة في أنتاركتيكا، ومن ثلوجٍ تكلل قمة جبل تطاول السحب إلى حفنة طحالب تنمو على رطوبة أصابت جذع شجرة في غابة استوائية.
تتهادى دببة الماء بسباحتها المتثاقلة الوئيدة -والتي اكتسبت بسببها اسمها الآخر الأكثر شهرة Tardigrades الذي يعني باللاتينية الخطوة البطيئة- في المياه تحت ظروف يستحيل تحملها بالنسبة للأغلبية الساحقة من مخلوقات هذا الكوكب.
ويسجل العلماء بقاءها حية في طيف هائل من درجات الحرارة يبدأ من مئتي درجة مئوية تحت الصفر ويصل إلى 150 درجة مئوية، وضغط يعادل ستة أضعاف الضغط عند أعمق نقطة معروفة في قيعان المحيطات، ومستويات من الإشعاع تبلغ آلاف أضعاف الجرعات القاتلة للبشر ومعظم أشكال الحياة! بل في الفضاء الخارجي، في مرمى الأشعة الكونية وغياب الأكسجين تماما، حسب تجربة أجريت عام 2007!
سر القوة ونقطة الضعف
لكن كيف تتحمل دببة الماء مثل تلك الظروف المستحيلة؟ يجيب العلماء بأن سر هذه القوى الخارقة يعود إلى قدرة دببة الماء على الدخول في طور يشبه السبات -وربما هو إلى الموت أقرب- عند اختبار الجفاف أو غيره من الظروف غير المواتية.
حيث يتكور فيها المخلوق الضئيل حول نفسه ليتخذ هيئة شبيهة بالبرميل، وتهبط أنشطته الحيوية إلى ما يقترب من 0.01% من معدلاتها الطبيعية، وتمكث في تلك الحالة البرميلية حتى يعود الماء، ولو ما يكفي منه فقط لتغطية الجسد الضئيل.
وتعتدل الظروف، لأعوام وربما لعقود، وفي تجربة مدهشة أعيدت دببة ماء إلى حالتها الطبيعية بعد البقاء في الحالة البرميلية داخل عينة جافة من الطحالب في متحف لمدة جاوزت المئة عام!
ولا شك أن هذه القدرات الخيالية قد دفعت العلماء إلى السعي لفهم المزيد عن آليات البقاء لدى دببة الماء، بتعريضها لأقسى الظروف الممكنة ودراسة استجاباتها. وهو ما أفضى أخيرا -في دراسة ساينتفك ريبورتس المذكورة- إلى اكتشاف نقطة ضعف هذه الكائنات الضئيلة الأسطورية، وهي التعرض للحرارة المرتفعة لفترات مطولة.
القوة الخارقة لدببة الماء تعود لقدرتها على الدخول في طور سبات قد يمتد لمئة عام (ويكيميديا كومنز) القوة الخارقة لدببة الماء تعود لقدرتها على الدخول في طور سبات قد يمتد لمئة عام (ويكيميديا كومنز)
قول ريكاردو نيفيس الباحث في البيولوجيا بجامعة كوبنهاغن والمشارك في الدراسة، "عرضنا دببة الماء في حالاتها العادية إلى درجة حرارة 37.1 مئوية لفترة متصلة، فمات نصف أفراد العينة بعد مرور 24 ساعة. أما الأطوار البرميلية فبلغت النسبة نفسها عند درجة حرارة 63.1 مئوية"، وكانت الدراسات السابقة التي تحملت فيها دببة الماء درجة 150 مئوية قد عرضتها لهذه الحرارة العالية لمدة نصف ساعة فقط.
وهكذا اكتشفنا أن هذه المخلوقات التي كنا نظنها حتى وقت قريب خارقة، لن يتطلب تهديد بقائها سوى ارتفاع درجة حرارة الكوكب بضع درجات مئوية فقط، الأمر الذي لا يبدو بعيدا تماما في أفق هذه الأرض الذي تلوح فيه الانقراضات الموشكة لشتى أنواع الكائنات، حتى تلك التي بلغت قصص تكيفها مبلغ الأساطير.