الحمض النووي الريبي نجم جديد صاعد بمجال الطب فهو مصدر لقاحات جديدة قد تقضي على فيروس كورونا (وكالة الأنباء الأوروبية)
الحمض النووي الريبي "آر إن إيه" (RNA) نجم جديد صاعد في مجال الطب، فهو مصدر لقاحات جديدة قد تقضي على فيروس كورونا المدمر بكل تحوراته، وهو بداية ثورة في التطعيم ليس فقط ضد كوفيد-19، ولكن ضد الكثير من القتلة المتسلسلين من الميكروبات.
لماذا؟
بهذه المقدمة لخصت مجلة لوبوان (Le Point) الفرنسية مقالا مشتركا بين غويندولين دوس سانتوس وكارولين تورب، قالتا فيه إن "آر إن إيه" المرسال -الذي ظهر من العدم وحاز السبق في تطعيم "كوفيد-19"- يعد بعلاج مجموعة كبيرة من الأمراض، كالتليف الكيسي والسرطانات وحتى الأمراض العصبية، وقد تكون لديه قدرة سحرية على شفاء كل شيء تقريبا.
"آر إن إيه" لم يكن شيئا مذكورا قبل اكتشافه أوائل ستينيات القرن العشرين، حين أصبح معروفا أنه ينسخ في نواة الخلايا ويخرج منها ولا يعود أبدا، آخذا معه نسخة من الشفرة الجينية التي يحملها أخوه الأكبر "دي إن إيه" (DNA) وغايته نقل الرسالة إلى خلايا الجسم، ومن هنا جاءت تسميته "المرسال".
وبهذه الطريقة تبقى النسخة الأصلية من الشفرة الوراثية مخفية ومحفوظة بالنواة، في حين تخرج النسخة المترجمة إلى لغة تفهمها الأجهزة الخلوية لتجعلها تقوم بوظائفها، وتترجمها مصانع البروتين، الريبوسومات، إلى مكونات أساسية لعمل الخلايا بشكل صحيح.
ويقول فرانك مارتن، الباحث في الهندسة المعمارية والتفاعلية لوحدة "آر إن إيه" في معهد البيولوجيا الجزيئية والخلوية في ستراسبورغ "الحمض النووي الريبي ظل الحلقة الضعيفة في البيولوجيا بسبب هشاشته" على عكس "دي إن إيه".
ورغم صعوبة التعامل معه لهشاشته، يهتم علماء الأحياء بهذا الجزيء، وقد عرفوا منذ أكثر من 20 عاما أنه مرن جدا ويتطور ويمكنه القيام بالعديد من الأشياء، خلافا لأخيه "دي إن إيه" الخامل.
"آر إن إيه" مثار اهتمام علماء الأحياء منذ 20 عاما (غيتي إيميجز)
النجم الجديد
كانت الطرق التقليدية تقوم بحقن المرء بفيروسات كاملة معطلة أو ميتة أو بشظايا فيروسية بسيطة، أو بجزء من جينوم الفيروس مدمج في فيروس آخر غير ضار لتثقيف الجهاز المناعي.
غير أن البراعة في تقنية "آر إن إيه" المرسال التي صدرتها شركتا فايزر ومودرنا تكمن في تشغيل خلايا الجسم حتى تقوم بكل العمل.
ويتم ذلك -حسب المجلة- من خلال تزويد الخلايا بالخطة الثمينة لبناء بروتينات فيروسية قادرة على تحفيز مناعة جيدة، وهذه الخطة بالنسبة لـ "ستار-كوف2" المسبب لـ "كوفيد-19" هي بروتينات "سبايك" الشهيرة الموجودة على سطح الفيروس.
هذه الخطة الثمينة محفورة على "آر إن إيه" المرسال، حيث يتم في اللقاح تغليف بضع عشرات من ميكروغرامات من "آر إن إيه" المرسال الذي يشفر بروتين سبايك في فقاعات دهنية للسماح لها بالوصول إلى غشاء الخلايا العضلية ودخولها دون عائق.
فتقرأ الريبوسومات الرسالة الموجودة على "آر إن إيه" المرسال، وتتشكل البروتينات الفيروسية التي تظهر على سطح الخلايا، وعندها يستشعر الجسم "الخطر" ويطلق استجابة مناعية ويأخذها في الاعتبار لدفاعاته المستقبلية.
ومع أن هذا يبدو منطقيا وسهلا، فإن هناك كثيرا من العقبات للوصول إليه. يقول برونو بيتارد، رائد الحمض النووي الريبي ومدير الأبحاث في مركز نانت أنجيه، إن محاولات عديدة للتطعيم بـ "آر إن إيه" قامت على مدار العقد الماضي ولكنها ظلت محجوبة في المرحلة الأولى أو الثانية من التجارب السريرية.
البراعة في تقنية "آر إن إيه" المرسال تكمن في تشغيل خلايا الجسم حتى تقوم بكل العمل (ماريا فويغت – ويكيميديا)
فرص غير متوقعة
ويضيف الباحث "وباء كورونا صنع فرصا غير متوقعة لشركات التكنولوجيا الحيوية التي استمرت بعناد في الرهان على الحمض النووي الريبي في الوقت الذي انسحبت فيه الشركات الكبيرة".
وأشار إلى انسحاب بعض المختبرات من موضوع "آر إن إيه" المرسال، ومن ضمنها معهد باستور خصوصا، بسبب قصة فشل في محاولة تطوير أول لقاح في العالم يعتمد على "آر إن إيه" المرسال ضد الإنفلونزا يعطى للفئران، وذلك عند انضمام الشاب فريدريك مارتينون إليه من المعهد الوطني للصحة والبحوث الطبية الذي اختار "آر إن إيه" المرسال.
ونبه الباحث إلى أن انتشار الإيدز أوائل التسعينيات جعل العلماء يفهمون أن صنع اللقاح يتطلب إيجاد طريقة لصنع الأجسام المضادة داخل الخلايا المصابة، كما أنه شكل حقبة عظيمة للعلاج الجيني، حيث يتم حقن الحمض النووي في الخلايا لجعلها تعبر عن الجينات.
غير أن المحاولات الأولى للعلاج فشلت لأن حقن الحمض النووي يثير رد فعل دفاعي في الجسم، مع أن رد الفعل المناعي "غير المرغوب فيه" هذا على وجه التحديد هو الذي يجذب انتباه علماء المناعة ويمهد الطريق للقاحات تعتمد على المادة الجينية.
عام 2011 – تقول المجلة- جاءت فرصة ثانية لسانوفي باستور، بتمويل من قسم الأبحاث بالجيش الأميركي، لتطوير لقاحات تعتمد "آر إن إيه" المرسال في مواجهة خطر الأمراض الناشئة.
وقد تعاملت باستور مع شركة فرنسية صغيرة تدعى "إن سل-آرت" محققة نتائج مثيرة للغاية، إلا أنها بعد 5 سنوات من البحث دفنت "آر إن إيه" المرسال للتركيز على إستراتيجيات اللقاح الأخرى.
واستطردت المجلة أن أبحاث الثنائي كاتالين كاريكو ودرو وايزمان اللذين وجدا حلا بتطوير طريقة تتيح الوقت للحمض النووي الريبي للعمل دون التسبب بالتهاب مدمر، وهذه التقنية "التنكرية" أحد الأركان الأساسية للقاحات "آر إن إيه" المرسال المستقبلية.
كورونا صنع فرصا غير متوقعة لشركات التكنولوجيا الحيوية التي راهنت على الحمض النووي الريبي (غيتي إيميجز)
ماذا عن الأمراض الأخرى؟
ومع تعديلات دقيقة -تقول المجلة- يستطيع "آر إن إيه" المرسال الاصطناعي أن يحول أي خلايا من الجسم إلى مصنع للأدوية بمجرد حقنها به، يقول ستيف باسكالو من شركة كيور فاك الألمانية "يمكننا أن نلجأ في كل مشكلة إلى (آر إن إيه) المرسال نظريا. الاحتمالات لا حصر لها".
ومن ناحية أخرى، يعود بيتار ليقول إن كفاءة "آر إن إيه" المرسال عابرة، مستنكرا أن نقول إننا سوف نعالج كل شيء بفضل "آر إن إيه" المرسال كالسرطانات والأمراض التنكسية العصبية ونزلات البرد "ما هذا؟ ليس هذا هو الحال".