من اليمين الكاتبة التونسية هدى الهرمي والكاتب العراقي أسامة غالي (وسط) والروائية اللبنانية ناتالي الخوري غريب (مواقع التواصل)
لعبت التقنية منذ منتصف القرن العشرين دورا كبيرا في تغذية وجدان الشعوب العربية وجعلها تمتطي سيرة "التحديث"، رغم أنّ هذا الأخير لم يكُن من الاختيارات الفكرية والضرورات التاريخية، وإنما جاء نتيجة مثاقفة مفروضة كرستها حقبة الاستعمار وكان لها تأثير كبير على واقع الثقافة والأدب داخل العالم العربي.
وأدى دخول التقنية إلى عوالم الإنسان الوجودية والإبداعية لجعل الأدب أكثر تحررا من سلطة الشكل، وأضحت معه مواقع التواصل الاجتماعي مساحات شاسعة للتعبير عن الرأي وتبادل الأفكار دون أي قيود تحريرية قد تفرضها بعض المجلات والجرائد والمواقع الإلكترونية.
وبقدر ما لعبت هذه الكتابات دورا في تحرير مخيلة الأدب العربي، فإنها من جهة أخرى ظلت تمارس نزوعها إلى ما يعتبره البعض استخفافا واستسهالا لا يقود إلى بلورة مفاهيم وطرح أسئلة قلقة وحقيقية عن جوهر هذا الأدب العربي وعوالمه في عصر الطفرة التكنولوجية.
وعن هذه العلاقة المتشابكة اليوم بين الكتابة الأدبية في علاقتها بوسائط "السوشيال ميديا" ومدى تأثيرها في الأدب عموما، كان للجزيرة نت هذا التحقيق الخاصّ مع جملة من الكتاب العرب من تونس ولبنان والعراق، فإلى حديثهم:
"جعلتنا وسائل التواصل نعيش في مرحلة: كلّ إنسان كاتب"
ناتالي الخوري غريب، روائية لبنانية
تقول الروائية اللبنانية ناتالي الخوري غريب إن وسائل التواصل الاجتماعي (فيسبوك أنموذجا) أصبحت الصالون الأدبي الأبرز، والوسيلة الإعلاميّة الإعلانيّة الأكثر قراءة وانتشارا، فجميع الشعراء والروائيين والفنّانين المحترفين أو المواهب الشابّة في صالون أدبي واحد. الكلّ يكتب، الكلّ ينشر، الكلّ يقرأ، الكلّ يمارس النقد، بعد أن كانت المنابر الشعرية وغيرها حكرا على الأسماء المكرّسة.
وتتابع: لقد التقت الأجيال والأذواق في الفضاء الواحد، كتّابا ومتلقّين، مما وضعنا أمام جدلية إبداعيّة بين فئتين: فئة من المكرّسين، تريد ذاكرة حداثويّة لا تعترف إلّا بها، ولا تستظهر إلا إبداعها، وفئة أخرى من المجدّدين التجريبيين في ضيق تضجّرهم للوصول السريع إلى تكريس الإبداعية الخاصّة بهم.
لقد غاب عن كليهما -بحسب الكاتبة- أنّ لكل مرحلة في الحياة فضاءاتها الإبداعيّة التي تعكس أحوال الإنسان في علاقته بالآخر والمجتمع والعالم من حوله، وإذا أردنا توصيف هذه المرحلة في تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على إنتاج نص أدبي متحرّر من أيّ سلطة، فلا بدّ لنا من الاعتراف بأنّ الواقع الاجتماعي هو الذي تحرّر تدريجيا من سلطة الموروث والمكرّس، في الفنّ والحياة وطبيعة العلائق الاجتماعية، وتاليا، كان لا بدّ من أن ينعكس هذا التحرّر على طبيعة النصوص الأدبية، ولغتها، وأجناسها.
لقد جعلتنا وسائل التواصل نعيش في مرحلة "كلّ إنسان كاتب"، وله الحقّ في أن يكون كاتبا، بمعنى أن يجعل حياته نصّا يقرأ منه متى يشاء.
هي مرحلة التوق إلى التجريب بكلّ أجناسه، ما يواكب طبيعة الحياة غير الثابتة، وطبيعة الدفق الوجداني على تفاوت في النضج على مستوى التعبير واللغة والفكرة. لذلك نرى الخاطرة هي الأكثر شيوعا، ولو أنّها اتخذت أحيانا هندسة الكتابة الشعرية، وأحيانا كتبت تحت اسم الأدب الوجيز أو أدب الومضة، في اختزان حال إنساني مكتمل، بما يتلاءم وكثافة العبارة، وقد غدت ترجمة للفوران الوجداني الذي يشعر به الناس، وتلبس رداء الحكمة الهادئة أحيانا، ورداء الاقتباس الذي يتغيّر لونه بمعجم الناقل.
وفق الخوري، هذا التحرّر من كل سلطة في الكتابة هو حاجة الإنسان للتعبير بحريّة عن يومياته وخيباته وأشواقه، تتخذ شكل خاطرة أو ومضة أو رسالة أو قصيدة قصيرة أو قصة قصيرة جدا.
أدب بلا تجنيس
إن الكاتب اليوم خاصة على وسائل التواصل الاجتماعي، ليس معنيّا بتصنيف أدبه وتجنيسه وتهجينه، ولا شكّ في أنّ متابعة النقاد له تفرحه بأنّه اكتسب شرعيّة ما، أو أنّ مكرّسًا ما تبنّاه، أو أكاديميًا ما قرأه، أو أنّ جائزة ما أعطيت له، هذه كلّها حوافز، لكنّ التفاعل مع النص لم يعد حكرا على هذه الجهات، والنصّ المضيء جمالا وإبداعا لا يحتاج إلى أحد.
وتضيف الخوري، لقد انتهى زمن القضايا الكبرى بمحمولاته التي تمت المتاجرة بها كثيرا، وبتنا نرى اتجاها في التلقي يستذوق النص الذي يحاكي يومياته وأفكاره وخيباته وأحلامه وعشقه.
أنا أؤمن بأنّ كلّ جيل يكتب أصالته ودهشته وتفرّده والمعنى الذي يبحث عنه. إن النصوص الأدبيّة كما الحياة، هي نتاج تراكمات في تفاعل وتجدّد دائمين، لذلك لا بدّ أن وسائل التواصل أتاحت للكتاب قراءة الكثير من النصوص المترجمة، من كل العالم، وهنا أحيي المترجمين على جهودهم المجانية في الترجمة على صفحاتهم شعرا ونثرا.
وتشير الكاتبة إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي أتاحت قراءة النتاج الأدبي العربي في عصوره المختلفة وتدرّج التجدد فيه، وجعلت إمكانات التحرّر من سلطة المتعارف عليه كبيرة، شكلا ومعنى.
"الميديا كرست الاستجابة لغواية النشر"
أسامة غالي، كاتب عراقي
يرى الكاتب العراقي أسامة غالي أن الحديث عن الأدب يقضي بالحديث عن 3 مشكلات: في النظرية أو ما يُصطلح عليه بالشعرية، وفي الأنواع أو ما يُصطلح عليه بالأجناس، وفي التمثلات أو ما يُصطلح عليه بالنقد الأدبي. وهذه المشكلات بها حاجة لنقاش أوسع، يزحزح ما قرّ من تصورات عنها. لكنّ مظنة الكتابة هنا -والحال هذه- لا تتسع إلا لسؤال العلاقة الجدلية بين الأدب و"الميديا"، ولهذا اقتضى الإيجاز في المشكلات الثلاث مفتتحا.
ويتابع: قد سأل سارتر: ما الأدب؟ كما سأل غيره طبعا، وهذا سؤال جوهري في المحددات، في التعريف، غير أن ثمة سؤالاً آخر تلح عليه الأبستمولوجيا الأدبية، ومؤدّاه: هل ثمَّ تعريف للأدب؟ هل ثمَّ ما قرّ محددا؟
ما زال النقاش عن مفهوم الأدب قائما ولم يحسم، بحسب غالي، وقد حاولت الشعرية قديما وحديثا أن تدفع بهذا السؤال نحو إجابات جامعة مانعة بالفهم الأرسطي، عامة، مجردة، كالإجابتين الرئيستين: "نص مكتوب بلغة أدبية"، وهو تعريف وصفي يغمز إلى مفارقة ما هو عادي أو علمي، وهذا ما تبناه جاكبسون. وإجابة ثانية تذهب بالسؤال نحو الخلق الأدبي، أعني العملية الإبداعية، وهي تعرّف الأدب بـ"التخييل".
أيا كانت زاوية النظر في الإجابة، يبقى الأدب لغة وتخييلا معا، كما يقول الكاتب العراقي.
ويستدرك، أمّا ما يتصل بالأجناس، فهذه مشكلة أخرى، بها حاجة إلى سؤال المفهوم، والمحددات الجوانية والبرانية، والعلاقة بين جنس وآخر، إضافة إلى سؤال النشأة والتحولات، وسؤال الشكل في الجنس نفسه وسيرورته، أي بمنظور تاريخ الأدب. غير أن الحديث -والحال هذه- يقتصر في حدود النماذج الراهنة: شعر، رواية، قصة، سيرة، قصيدة بالنثر، وهذه الأجناس الأدبية خاضعة أيضا لمسعى الصيرورة حضورا وغيابا، أعني تبدل الأجناس الأدبية مع مرور الحقب، أو تداخلها، واشتباكها لإنتاج جنس أدبي جديد.
ويتابع، أمّا ما يتصل بالتمثلات، فهذه عناية النقد الأدبي، فهو يتابع الأثر المنجز.
"الميديا" والأدب
وفي ضوء هذه المشكلات الثلاث، يمكن السؤال عن العلاقة بين "الميديا" والأدب، هل ساهمت الميديا في سؤال الأدب؟ أو في سؤال الأجناس؟ أو في سؤال النقد؟هل زحزحت الميديا هذه المشكلات، وفرضت رؤى جديدة تنسجم مع عصر التقانة، أو بقيت تمارس وظيفتها الأساسية، أعني الإشهار؟
عملت الميديا، على استبعاد هذه المشكلات، وتكريس الاستجابة السريعة بفعل غواية النشر، ولم تقدم -على المستوى النوعي- ما هو جديد، وأعني بالجديد: المختلف، المفارق، الأثر. وإذا ما قصدتُ إلى الشعر مثالا، يمكن القول: لا يوجد شعر جديد، ولا سيما في الحقبتين الأخيرتين، أو العقدين الأخيرين، يسوّغ الوصف بأنه شعر جديد ذو أثر، بحسب الكاتب.
ثمة محاولات، لكنها شكلية. فقد سيطرت غواية ألاعيب الشكل على الكتابة الشعريّة، وفقدت بهذا أثرها. ويقول غالي إنه يجد أن هذه الألاعيب من منح الميديا وعصر التقانة، فرهان التجاوز في الشكل لم يكن بصورته القديمة، "أعني ما كان مع المجددين في يقظة الوعي الشعري قديما وحديثا: جماعة الخروج عن نظام عمود الشعر، وجماعة الخروج عن نظام الشطرين، وجماعة الخروج عن النظامين، وجماعة قصيدة شعر مثالا، وإنما رهان التقانة الراهن يقف عند حدود الشكل في الكتابة، أعني تشبيها بطريقة مالارميه (شاعر فرنسي)".
"انطلاق العصر الرقمي جعل الأدب يدور في فلكه"
هدى الهرمي، كاتبة تونسية
وترى الكاتبة التونسية هدى الهرمي أن العالم فقد تركيزه ونسقه النمطي، بينما صارت وسائل التواصل الاجتماعي متسيدة لكل شيء. الأمر الذي فتح أمام الأدب العربي الثورة التقنية كوافد جديد يبحث عن ظهورات مستجدة في عصر متسارع.
وتردف: لقد طُرح موضوع التقنية على أكثر من مستوى، وذلك عبر سيرورة البحث عن هذا التحول الذي يظهر جليا في الصراع بين الثقافتين التقليدية والحديثة، بفعل مواد العالم المتغيرة باستمرار والتسربات العديدة لأدب جديد، منفتح على آفاق واسعة، تجنبه أحادية المعنى وتحرره من سطوة الشكل.
وتكمل: وعلى هذا النحو انتقل المعنى من الواحد إلى التعددية عبر توسع دائرة التفاعل، وتحول القارئ من مستهلك إلى منتج، ليتطور دوره من خلال علاقته بالثقافة التكنولوجية. لقد أصبح من المستحيل منطقيا القول بأحادية المعنى وأحادية الحقيقة الأدبية مع تعدد طرائق الكتابة والتلقي، والمناهج الحديثة التي أضفت مزيدا من الدلالات والرؤى على النص الأدبي، بحسب الكاتبة التونسية.
وتشير الهرمي إلى ظهور تصورات جديدة للعالم تتجاوز إكراهات الواقع، وتفرض كتابة إبداعية مغايرة، تستجيب لمنظومة مستجدة في طريقة بناء الشكل الأدبي، وتحوّلا في التعبير.
ومع انطلاق موجة العصر الرقمي، ظل الأدب يدور في نفس الفلك من الثنائيات بين الرفيع والمتدني، نظرا لبروز الثقافة المشاعية التي وفرتها وسائل التواصل الاجتماعي، ولا سيما على صعيد التعاطي مع التقنية لتغدو المؤثر الأبرز في مجتمعات الاستهلاك، مما أنتج تراكما أدبيا إلى حد التخمة، وأضحت تشكل عائقا أمام استيعاب الافكار، بحسب الهرمي.
ومع ذلك يصعب الحديث عن أدب عربي جديد بآفاق إبداعية وجمالية في مستوى تطلعات القراءة الواعية، حيث إن الإبداع يحتاج -بالإضافة إلى الموهبة ومواكبة المشهد الثقافي- إلى ضبط التقنية والوعي بها كوسيط.