"بدا الأمر وكأننا نقف على أبواب الجحيم، إنها نهاية كل شيء، نهاية الزمن والمكان"
(هاينو فالكي)

لم يكن أحد ليتوقع ذلك. في معرض حديثه عن هذا المشروع الواعد، قبل ساعات قليلة فقط، قال "هاينو فالكي"، رئيس المجلس العلمي لمشروع "تلسكوب أفق الحدث"، إن البعض كانوا يقولون إنه من المستحيل أن يرى أحد ثقبا أسود، فالأمر غاية في التعقيد، لكنّ فريقا بحثيا، معظمه من الشباب صغار السن من أربعين دولة0، قرر أن يطارد ذلك المستحيل على مدى أكثر من عقد من الزمان، وها هو ينجح في مهمته، فقد أزاح المسؤولون في "تلسكوب أفق الحدث" اليوم الستار(1) عن الصورة الأولى في التاريخ لثقب أسود. نعم، كل ما رأيته من قبل على وسائل التواصل كان فقط تصميما ثنائي البُعد أو ثلاثي البُعد، ما تراه أمامك الآن هو صورة حقيقية!

النجم الذي مات



أول صورة في التاريخ لثقب أسود (تلسكوب أفق الحدث) (مواقع التواصل)


لكن لفهم مدى صعوبة ذلك التحدي، بصورة أكثر عمقا بعيدا عن الأخبار المنتشرة في كل مكان، دعنا نهدأ قليلا ونجهز عقولنا لبعض الفيزياء البسيطة، ولنبدأ من اللحظة الأولى، اللحظة التي يتكوّن فيها الثقب الأسود. حيث يقف أي نجم في الكون ثابتا مستقرا بسبب تساوي قوتين، قوة جاذبيته التي تدفعه للانهيار على ذاته، وقوة التفاعلات النووية الاندماجية التي تُنتج كمًّا مهولا من الإشعاع يدفع ضد تلك الجاذبية، لكن في نهاية أعمار النجوم الضخمة ينكسر ذلك الاتزان بسبب عدم تمكّن النجم من الاستمرار في عملية الاندماج النووي، فينهار على ذاته في كسر من الثانية ليصنع انفجارا مهولا يسمى "مستعرا أعظم"(2) (Supernova)، مخلفا في مركزه نجما نيوترونيا أو ثقبا أسود، لكن ما الثقب الأسود؟!

نعرف من قانون الجاذبية لنيوتن أن قوة جذب جسم لآخر تتأثر بمعيارين، كتلة كل منهما والمسافة بينهما، فإذا ازدادت الكتلة ازدادت الجاذبية، وإذا ازدادت المسافة بين جسمين قلّت الجاذبية بينهما. حينما تقف على الأرض فإن جاذبيتها لك لا تُحسب فقط من معرفتنا لكتلتك وكتلة الأرض، لكننا أيضا بحاجة إلى حساب المسافة بينك وبين مركز الأرض، لو افترضنا أننا تمكّنّا بشكل ما من ضغط الأرض بحيث يصبح قُطرها أقل بعشر مرات مما هي عليه الآن مع ثبات كتلتها، فإن قوة جذب الأرض لك ستتضاعف نحو مئة مرة، يعني ذلك أنك سوف تلتصق بالأرض وتعجز عن الحركة تقريبا. هذا هو ما يجعل الثقب الأسود ذا قدرة عظيمة على جذب أي شيء؛ فقُطره صغير جدا بينما ما زال يحمل كتلة النجم المنهار على ذاته، بالتالي ترتفع قوة الجاذبية الخاصة به، لكن إلى أي حد يمكن أن تصل تلك القوة؟



كل جسم في الكون له جاذبية، تحتاج لكي تفلت من تلك الجاذبية إلى أن تقفز بسرعة ما، تسمى "سرعة الإفلات" (مواقع التواصل)


كل جسم في الكون له جاذبية، تحتاج لكي تفلت من تلك الجاذبية إلى أن تقفز بسرعة ما، لكي تفلت من جاذبية الأرض مثلا تحتاج إلى أن تركب صاروخا يقفز بسرعة 11.2 كيلومتر في الثانية، أي سرعة أقل من ذلك سوف تمنعك من الهروب وتعيدك إلى الأرض مرة أخرى، من كوكب زحل تحتاج إلى صاروخ ينطلق بسرعة 60.2 كم/ث، ومن الشمس سوف تحتاج إلى صاروخ يقفز بسرعة 617.5 كم/ث، وهكذا، كلما ازدادت جاذبية الجسم ازداد احتياجنا إلى سرعة أكبر كي نفلت من قبضة جاذبيته، لكن حينما نود أن نعرّف الثقب الأسود فنحن نقول إنه الجرم الذي لا يستطيع أي شيء، حتى شعاع الضوء نفسه، الإفلات منه؛ حيث نحتاج هنا إلى أن نقفز بسرعة أكبر من سرعة الضوء التي هي بالفعل أسرع شيء في الكون، هنا يظهر ما نسميه بـ "أفق الحدث(3)" (Event Horizon).

أفق الحدث



في مركز الثقب الأسود يوجد ما ندعوه "المفردة" (Singularity)، وهي النقطة التي من المفترض ينسحق فيها كل شيء يدخل للثقب الأسود، أما أفق الحدث (Event Horizon) فهو المنطقة حول الثقب الأسود التي تُمثّل الحد الذي لا يمكن لأي شيء، حتى الضوء نفسه، أن يفلت منه، لذلك لا نستطيع أن نرى ما يحدث خلف أفق الحدث، لأن أي شعاع ضوء أو إشارة لا سلكية أو صوتك مناديا على زميلك في الخارج لينقذك، أي شيء يحاول الإفلات من تلك المنطقة لإبلاغ أعيننا أو أجهزة الراديو الخاصة بنا بما يحدث هناك لن ينجح، بالتالي فإن أفق الحدث ليس حاجزا أو جدارا ما، بل هو أشبه بتلك النقطة قبل الدخول في الشلال والتي عندها لا يمكنك العودة بقاربك مهما امتلكت محركاتك من قوة، عندها لا تشعر بشيء مميز غير الخوف من الموت في نهاية الشلال.





"أفق الحدث" إذن هو أبعد مكان عن مركز الثقب الأسود يمكن خلاله أن ينجذب شعاع الضوء للداخل. لكن تلك النقطة في مركز الثقب الأسود قادرة على مد قوة جذبها في كل الاتجاهات، لذلك فالثقب الأسود هو أشبه ما يكون بغرفة على شكل كرة في الفضاء، هذه الغرفة لا جدران لها، وأنوارها مطفأة. بالتالي فالثقب الأسود ليس كتلة سوداء مكونة من مادة ما، وإنما هو مكان لا يمكن لنا رؤية ما يحدث فيه. يدفعنا ذلك لسؤال مهم: كيف يمكن لنا رصد جرم لا يشع أي شيء؟ خاصة إن كان ذا حجم صغير حينما نعرّفه كنجم منهار على ذاته؟!


من الدجاجة إلى العذراء!

يبدأ الأمر من خطأ شائع يقول إن الثقب الأسود هو بالوعة تسحب كل شيء، لكن ذلك ليس صحيحا، حول الثقب الأسود يوجد قرص(4) ضخم يحوي المادة التي تدور بسرعة شديدة تقترب من سرعة الضوء، هذه المادة لا تسقط كلها في الثقب الأسود، لأنها -ببساطة- تقع خارج أفق الحدث، وما يقع خارج أفق الحدث يمكن أن يفلت من جذب الثقب الأسود إذا امتلك سرعة كافية، بالضبط كما يتمكّن القارب من الإفلات من الشلال قبل منطقة محددة.

تتسبب تلك السرعة الشديدة والاحتكاك بين جزيئات المادة في ارتفاع درجة حرارة القرص المحيط بالثقب الأسود، ويخرج منه بسبب ذلك كمٌّ مهول من "الأشعة السينية" يمكن لنا رصده وحساب تدفقه بدقة ومقارنته مع تنبؤات معادلات أينشتاين، كانت تلك هي الطريقة التي اكتشفنا بها وجود الثقب الأسود المسمى(5) بـ "الدجاجة أكس-1" (Cygnus X-1) سنة 1971، أول جرم سماوي اتفق الفلكيون على أنه مرشح قوي ليكون ثقبا أسود، وتأكد ذلك بالفعل في سنة ٢٠١١، لكنّ أحدا لم ير صورته، فقط رصدنا أثره.





وبجانب الأشعة السينية، كان يُعتقد أن النفّاثات الراديوية الضخمة التي تخرج من مركز بعض المجرات ترتبط بوجود ثقوب سوداء فائقة الكتلة في مركزها، هذه النفاثات تنطلق من المادة المجاورة للثقب الأسود وليس من الثقب الأسود نفسه، لأنه -كما تعرف- لا يشع أي شيء. أشهر الأمثلة هنا هو مركز المجرة الإهليلجية M87 أو "العذراء أ"، والتي تطلق نفاثات راديوية، اكتشفها في عام 1918 الفلكي هيبر كورتيس ووصفها بأنها "فيض غريب مستقيم"، وتُقدّر كتلة ذلك الثقب الأسود الموجود في مركزها بنحو 6.5 مليار شمس.


المجرة "العذراء أ" (مواقع التواصل)


ما العلاقة بين تلسكوب أفق الحدث وراديو جدتك القديم؟

في تلك النقطة تحديدا يدخل تلسكوب أفق الحدث (Event Horizon Telescope)، لكن لفهم كامل الصورة يمكن أن نبدأ من الراديو القديم الموجود في منزلكم، نعرف أن الراديو هو جهاز لاستقبال ترددات المحطات الإذاعية المختلفة، يحتوي الراديو على عدة قطع: الهوائي الطويل على سبيل المثال، كذلك المؤشر الذي نقوم بإداراته ليتحرك بين عدد كبير ومتداخل من الأرقام التي تشير إلى التردد. على سبيل المثال، ستجد أن محطة إذاعة الشرق الأوسط، في مصر، تقع عند النقطة عند 89.5 ميجا هرتز. أما "نجوم إف إم"، وهي إذاعة مصرية شهيرة، ستكون موجودة عند القيمة 100.6، هذه الـ "ميجا هرتز" التي تتنقل بينها هي ببساطة النقطة، على الطيف الكهرومغناطيسي، التي يمكن عندها أن تلتقط تلك المحطة.

يمكن لعينيك أن تلتقط فقط ما هو موجود في نطاق الضوء المرئي، لكن هذا النطاق هو فقط جزء طيف من نطاق أكبر يسمى "الطيف الكهرومغناطيسي". في الحقيقة فإن العالم بالنسبة لنا نحن البشر يختلف عن العالم بالنسبة لبعض الطيور مثلا، وذلك لأن مستقبلاتنا العصبية يمكن أن تستشعر ثلاثة ألوان فقط (أحمر، أصفر، أخضر)، بينما يمكن لبعض الطيور أن تستقبل سبعة ألوان، أي إنها يمكن أن ترى ألوانا لا نراها، كذلك فإن العديد من الحشرات تتمكن من رؤية نوع من الطيف الكهرومغناطيسي يسمى "الأشعة فوق البنفسجية"، أما الثعابين فقادرة على رؤية "الأشعة تحت الحمراء".

الطيف الكهرومغناطيسي(6) ببساطة هو نطاق واسع ممتد يحمل كل أنواع الموجات الكهرومغناطيسية، مثل الضوء والأشعة تحت الحمراء وفوق البنفسجية والراديو، لكن على العكس من عالم الحيوان، تمكّنّا نحن البشر من تصنيع أدوات يمكن لها أن تلتقط موجات لا يمكن لنا أن نراها، أحد أنواع هذه الموجات توجد في نطاق "الراديو" في الطيف الكهرومغناطيسي، وهو ما تستقبله التلسكوبات الراديوية مثل "تلسكوب أفق الحدث".



التلسكوبات الراديوية تشبه أجهزة الراديو، لكنها بأطباق لاقطة كبيرة (مواقع التواصل)



هذه التلسكوبات الراديوية تشبه، بالضبط، الراديو القديم في منزلكم، لكنها أكثر دقة وكفاءة وتتمكن من التقاط نطاقات راديوية مختلفة. الهوائي الذي تُمثّله قطعة معدنية يمكن رفع طولها بأكبر قدر ممكن لالتقاط المحطات الإذاعية الضعيفة، يقابله في التلسكوب الراديوي طبق ضخم، كلما ازداد قُطره ازدادت قدراته على التقاط أدق الإشارات وأضعفها، أسفل هذا الطبق يوجد جسم التلسكوب والذي يحوي عددا من الحواسيب الضخمة لالتقاط الإشارات وتحليلها وتنقيحها، التلسكوب الراديوي إذن هو تلسكوب لا يرى، يلتقط الإشارات فقط، كالراديو الخاص بجدتك.


فكرة عبقرية

بالنسبة للثقوب السوداء، لم تكن الفكرة أن يلتقط الباحثون من تلسكوب أفق الحدث صورة للثقب الأسود نفسه، لأن ذلك غير ممكن بالطبع، ولكن التقاط صورة للثقب الأسود محاطا بالقرص المزود الذي يُطلق أشعة في نطاق الراديو، بالتالي سيظهر الثقب الأسود كأنه كرة سوداء محاطة بكمٍّ هائل من المادة التي تدور حوله، لكن المشكلة الرئيسية التي ظهرت في بداية الأمر هي أن الثقب الأسود صغير جدا، يشبه الأمر أن تحاول بعينيك رصد حبة عدس موجودة الآن في مدينة "سانت بطرسبرغ" الروسية وأنت تقف على أحد "كباري" القاهرة!

لهذا السبب برزت فكرة جديدة عبقرية، إذا قررنا رصد حبة العدس الصغيرة (الثقب الأسود) في مكان يبتعد عنّا نحو ٥٥ مليون سنة ضوئية في قلب مجرة "العذراء أ"، وهو رقم مهول لا يمكن بسهولة تخيّله، يجب أن نمتلك تلسكوبا ضخما كفاية ليغطي مساحة أكبر من قارة بأكملها، مساحة تغطي نصف كوكب كامل كالأرض، في تلك النقطة تظهر تقنية التداخل طويل المدى الأساسي(7) (very long baseline interferometry)، وتعني أن يتم ربط العديد من التلسكوبات الراديوية في آن واحد بحيث تعمل معا بفاعلية طبق واحد عملاق قُطره يساوي أطول مسافة بين تلسكوبين في الشبكة. بالنسبة لتلسكوب أفق الحدث فإن هذه المسافة تبدأ من القطب الجنوبي وتصل إلى إسبانيا!!




حسنا، إلى الآن قطعنا معظم المسافة لالتقاط الصورة الأولى لثقب أسود يقع على مسافة كتلك، بقي شيء واحد فقط هو ما أعطى مجموع التلسكوبات تلك القوة، يشبه الأمر أن تمتلك مجموعة مكونة من ثمانية بيانوهات، كل بيانو منهم يحوي عددا من المفاتيح التالفة غير الآخر، وكل من البيانوهات الثمانية يعزف اللحن نفسه، ليكن السيمفونية التاسعة لبيتهوفن مثلا. على الرغم من أن الاستماع لبيانو واحد منهم قد لا يُمكّنك من التعرف إلى اللحن بسهولة لأنه سيظهر متقطعا وغير واضح، فإن جمع البيانات من البيانوهات الثمانية ودمجها معا سيُمكّنك من الاستماع لصورة كلّية شبه كاملة من تاسعة بيتهوفن.

هكذا جمع تلسكوب أفق الحدث كمًّا مهولا من البيانات الخاصة عبر ثمانية مراصد موزعة في نصف العالم تقريبا، ثم عبر برامج حاسوبية غاية في التعقيد أمكن جمع الأجزاء الصغيرة للصورة الخاصة بالثقب الأسود لتظهر كما رأيناها قبل ساعات وغمرت وسائل التواصل الاجتماعي، هذه الصورة البسيطة هي نتيجة عمل عشرات الباحثين خلال سنوات عدة من أجل جمع أجزائها كقطعة "بازل". تلك هي فقط النتائج الأولية لتلسكوب أفق الحدث، ننتظر في أقرب فرصة نتائج محاولات هذا الفريق المتحمس لرصد الثقب الأسود القريب منّا، وهو ذلك الذي يقع في مركز مجرتنا درب التبّانة، لا شك أن هذا سيكون رائعا.





نشأ الكون -كما نتصور- من انفجار كبير حدث قبل ١٣.٨ مليار سنة، تطور ببطء وانخفضت درجات حرارته مع تمدد الزمكان حتّى ظهرت المجرات الأولى، بعد ذلك سمحت الظروف للكواكب أن تتكوّن وتدور حول النجوم، ثم قبل 4.1 مليار سنة ظهرت صور الحياة الأولى على كوكبنا بشكل ما زال يدعونا للتساؤل، تلك الحياة قد تطورت وتنوعت بصورة بديعة لنصل إلى الإنسان المعاصر فقط قبل ٣٠٠ ألف سنة تقريبا، ثم يظهر العلم بصورته الحديثة قبل عدة مئات من السنوات فقط، فنستخدمه لسبر أغوار كل ذلك التاريخ الكوني المهيب ونتمكّن، اليوم فقط، من التقاط صورة لأكثر الأجرام السماوية لفتا للانتباه طوال مئة سنة مضت. قال كارل ساجان ذات مرة: "نحن الكون وهو يحاول استكشاف ذاته".