ساسي جبيل
ليس من باب الحظّ والمفاجأة أن تَصدّرَ الشّاعر الفرنسي إيف بونفوا مرحلة كاملة من أواخر القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين كأحد أبرز الوجوه الإبداعيّة الشعريّة المفكّرة، التّي عزّزت التعمق في سؤال الشّعر كمسألة حيّة لا تموت شأنها الشكّ الدّائم حول الجمال والمردوديّة. أيّ المداخل يمكن تماسها مع هذه الكينونة المواظبة في الوصف كحالة تندمج باستمرار بين المناسبة والمشغل، وبين القادح والورشة بين الوقوف والتوقّف.
إيف بونفوا (1933 – 2016) تدرّج في العلم والمعرفة حتّى ارتقى «كولاج دي فرانس»، ومنها درّس في عديد الجامعات الأوروبية، طارحاً أسئلة فاتحاً المجال للتفكّر دائماً حول الشّعرية: هل من معيار تقييمي للظاهرة الشّعرية، وهي تتمظهر في البسيط والمعقّد؟ كيف للّغة أن تسجّل تلك المفارقات بكلّ إعيائها الدّلالي دون سند يذكر؟ ما الشّعر مرّة أخرى وهو يخاتل الموت بالحياة ويفسح المجال لضرورة الوعي بالأفول الولاد.
إيف بونفوا محطّات من الجوائز التقديريّة على غرار «جائزة غنكور» و«جائزة فرانتس كافكا»و«جائزة الأركانة» لم تكن نهاية المسيرة والحفر بعد تاريخ من الاستلهام من فنون شتّى وشخصيّات لامس مجرّاتها أمثال جياكومتّي وبيكاسو.
له دواوين كثيرة مثل «حجر مكتوب» و«في خديعة العتبة»، حيث بلورّت تجربة لا تنحاز، حثيثة للإنشاء بقدر ما تطمح للمحاكاة وهل المحاكاة أمر سهل؟ وهو ينازل هذه القضايا كانت الكتابة قنّاصة تحتفي بالقريب وتخفّض أجنحتها البلاغيّة في ملمح يبدو في تأويله الأوّلي ينهل من سرياليّة واقعيّة كان قد طلّقها ولكنّها تركن للمشهديّة وللتشكيلات النحتيّة وللتنفّس السينمائي.
فلا مجال شَرطُه في أن يأكل الفنّ من بعضه البعض، والدّلالة هذه المختارات المختزلة التّي تروم أن تساعد القارئ على تبيّن هذا الالتزام الإنساني وعياً دافقاً يسند للشعراء قيمة كونيّة في العطاء، ومركزيّة مشعّة للهامش والمنبوذ حتى تولّد أجنحة ومواقف وأفكار ما زالت الفلسفة تُداركها بمنطق الجدل والبرهان.
ترجمات من شعره هي نافذة على شعريّة عالميّة تتكوّر في شكل اللّولب تأخذ من ماضينا مقولتها الباب «هل غادر الشّعراء من متردّم».
المناسبة والمشغل تيمتان نضّاختان لرحلةٌ حيّة تداوم في السّير تبني بضعفها قوّة الإصرار للوصول إلى عمق التجربة الإنسانية بين الجسد والرّوح
وفيما يلي مختارات لبونفوا من ترجمة الشاعر العربي أدونيس.
زورقان
أودّ، ناسياً إياكِ، وأنا معكِ
أن تفكّي أصابعي
أن تشكّلي من راحتي كأساً
أشرب قرب عطشك
ثم أترك الماء يجري فوق أعضائنا
ماء يجعلنا نكون، ونحن لم نكن
ماء يسيل عبر الأجسام القاحلة
من أجل فرح مبعثر في اللغز
غير أنه حسّ داخلي
أتذكرين؟
كنّا نسير في هذه الحقول المسيّجة بالحجر
وفجأةً خزّان الماء، وهذان الحضوران
في أي بلد آخر من الصيف المقفر
انظري كيف ينحنيان
إنهما مثلنا
هل يصغيان إلينا؟
يتحدثان عنّا؟
ياسمين تحت أغصان الشجرة الأولى
في ضوئهما السعيد المحجوب قليلاً
انظري، الماء يضطرب
غير أن أشكاله وقد استنفدت أكثر نقاوة
ما الحقيقي من هذين العالمين؟
أمر لا طائل فيه
ابتكريني أو لعلك تضاعفيني
على تخوم أسطورة ممزقة.
أيّها العابر
أنظر إلى هذه الشجرة الضخمة وعبرها،
يمكن أن يكفي
لأنّها حتّى وإن كانت ممزّقة ووسخة، شجرة الشوارع
هي الطبيعة بأسرها، السّماء بأسرها،
العصفور يحطّ عليها، الرّيح تتحرّك فيها، الشمس
تقول فيها ذات الأمل، على الرغم من الموت
أيّها الفيلسوف،
هل من حظّك أن تكون الشجرة في شارعك،
ستكون أفكارك أقلّ صعوبة، وعيناك أكثر حرّية،
ويداك راغبتان في ليل أقلصي الليل
صيفُ ليل
يُخيّل إليّ، هذا المساء،
أنّ السماء المكوكبة، إذْ تتسع،
تقترب إلينا، وأن الليل،
وراء نيران كثيرة، أقل ظلاماً
وأوراق الشجر أيضاً تتلألأ تحت أوراق الشجر،
الأخضر، ولون الثمار الناضجة، البرتقاليّ، تنَامى،
مصباح ملاكٍ قريب، نبضَ
نورٍ مُخبأ يستحوذُ على الشجرة الكونية
يُخيّل إليّ، هذا المساء،
أننا دخلنا في الحديقة التي أغلق
الملاك أبوابها دون عودة
سفينةُ صيفٍ
وأنتِ كأنكِ في صدرها، وكأن الزمن يكتمل،
تنشرين أنسجةً مرسومةً وتتحدثين بصوتٍ خافت.
في حلم أيار،
كانت الأبدية تصعد بين ثمار الشجرة
وكنت أقدّم لكِ الثمرةَ التي تجعل الشجرة بلا حدّ
دونَ هَمٍّ ولا موت، ثمرةَ عالمٍ مشترك
بعيداً في الصحراء الزّبد يجول الموتى،
لم تعد ثمة صحراء لأن كلّ شيءٍ فينا
ولم يعدّ ثمة موت لأن شفتيّ تلامسان
ماءَ تشابهٍ مُبعثرٍ على البحر.
يا كفاية الصيف، ملكتك نقيةً
كالماء الذي غيّرته النجمة، كضجيج
زبدٍ تحت خطواتنا حيث يعلو بياض الرمل
ليبارك جسمينا غير المُضائين.
- عن الاتحاد