القليل من لم يسمع عن الكاتبة الشهيرة "اجاثا كريستي" أو من لم يقرأ لها رواية بوليسية واحدة من رواياتها البالغة اكثر من 77 كتاباً ثلاثة منها تدور في العراق.. هي "الجريمة في وادي الرافدين" و"قطار الشرق السريع" و"بوابة الى بغداد".
شغفت "اجاثا كريستي" بالقطارات وولعت بالسفر جعلها تختار بلاد ما بين النهرين لتكون فيها بعدما قرأت الكثير عن حضاراتها والآثار النفيسة الذهبية الجميلة التي تم اكتشافها في مقبرة "اور" الملكية المثيرة للاعجاب وعرضت صورها في لندن اضافة الى هربها من واقعها الذي كان ينغص عليها حياتها بعد طلاقها من زوجها الاول الضابط في الجيش وحالتها النفسية المتردية كل هذه الاسباب دفعتها الى مغامرة السفر الى بغداد ومنها الى الناصرية و"اور" في الفترة ما بين عامي 1928-1929 حتى لقاءها بعالم الآثار البريطاني البروفيسور "ماكس مالوان" الذي كان ينقب في حفريات "النمرود" وزواجها منه ومرافقته في عمله.
وقد اذهلت "مقبرة اور الملكية" المرأة الانكليزية وما عثر فيها من اللقى من الخنجر المشهور الى القيثارة السومرية والحلي النسائية الملكية فشدت هذه الآثار اجاثا كريستي ومنحتها تصوراً جديداً وبعداً اخراً اضفى على كتابتها نوع من السحر والغموض كونت اجوائها مصدر وحي والهام لتكتب قصصاً تشد القارئ بروعة الشرق ولغز الجريمة.
وفي الاعوام القليلة الماضية اقيم في المتحف البريطاني معرض خاص عن اجاثا كريستي ومقتنياتها وعملها في العراق ليروي بعضاً من قصة حياتها بعد ان تعلمت من زوجها بعداً مهماً من ابعاد صنعة التنقيب وصيانة وحفظ الآثار.. فبعد الاستدلال على الموقع وغالباً ما يكون مكاناً مرتفعاً تبدأ عمليات الحفر بشكل بطيء وممل وبادوات يدوية بسيطة تتطلب الصبر والاناة والدقة والتأني التي يقوم بها اهالي "الشرقاط" بكل جدارة.. فهم بالفطرة يعدون من احسن المنقبين عن الآثار في العراق.. فكانت اجاثا كريستي تتلقف اللقى المطمورة بين طيات التراب منذ آلاف السنين وتلفها بقطعة قماش مبللة لتمنع ملامستها للهواء الذي يعرضها للتهشم ثم تتركها لتتعود تتأقلم تدريجياً على الجو فوق سطح الارض بعدها تقوم بترميم هذه اللقى وتضع لها وصفاً دقيقاً ورسمها أو تصويرها في سجل خاص.. كما كانت تعمل على جمع الاجزاء المكسورة مع بعضها البعض لتعيدها الى شكلها الاصلي.. اما زوجها فكان يقرر نسبها وتاريخها ونمطها واسلوبها ومكان العثور عليها والطبقة التي استخرجت منها..
وفي موقع "النمرود" الذي يقع بالقرب من مدينة الموصل استعملت اجاثا كريستي آلة التصوير السينمائية في تصوير لقطات عن الناس والبيئة في تلك الاماكن فوجد في البوماتها صوراً عن الراعي الكردي يقطع الطريق عابراً بمعزاته ورهبان فرنسيكان بملابسهم التقليدية وعبر النهر صورت راعي عربي بغترته وعقاله وفلاحاً يحرث الارض واخر يبذر البذور ودولاب الهواء وبائع الحلاوة وشاب ببدلة اوروبية عصرية بربطة عنق.
وفي هذه الفترة التي عملت فيها اجاثا كريستي في النمرود تم العثور على اجمل الآثار واهمها.. منها تمثال لرأس الفتاة المشهورة بـ"الموناليزا" وقطع جميلة لا تحصى من العاجيات.. الا ان زوجها البروفيسور "مالاوان" شعر في عام 1933 بامكانية التنقيب في موقع "الاربجية" حينها مولت هذه الكاتبة عمليات بعثة التنقيب من مالها الخاص بالاشتراك مع المتحف البريطاني والمدرسة البريطانية للآثار ثم توسعت تنقيبات هذه البعثة لتشمل مواقع "شكر بازار" و"تل براك" فتم الكشف عن موقع مهم يعرف بـ"معبد العيون" كما عثر على معمل متطور لصنع الفخار اليدوي اذ كانت حاجة الانسان ملحة للاواني الفخارية لحفظ خزينه من الطعام.. وفترة الاربجية تعود الى العصر الحجري الحديث الذي عاش فيه الانسان في المنطقة الشمالية من العراق عندما انطلقت الثورة الزراعية الكبرى وتشمل هذه الفترة التي امتدت الى نحو 10 آلاف سنة الكثير من المواقع منها "جرمو" و"حسونة" و"تل الصوان" و"سامراء".
وفي "الاربجية" سكنت "اجاثا كريستي" في بيت بسيط وواصلت عملها الدؤوب وكتابة قصصها البوليسية وتسجيل الوقائع بآلة تصويرها السينمائية الا انها كانت تنتقل بشكل دائم بين المواقع الآثارية لتعود الى بغداد بين حين واخر طلباً للراحة.. فتجلس في شرفة تطل على نهر دجلة في الصباح تتناول فطوراً انكليزياً أوقيمراً عراقياً مع خبز تنور لذيذ.
ولا يسعنا ان نقول ان سحر العراق وحضارته طغت على مشاعر الكاتبة الانكليزية المرهفة.. فكانت تتمنى ان تعيش فيه طيلة حياتها لكن انتهاء اعمال زوجها في التنقيبات وعودته الى لندن جعلها ترافقه الى هناك.. لكنها خلدته في رواياتها وصورها ومعارضها ومقتنياتها.. اعطت وفاءها للبلد الذي رحب بها واحتضنها ردحاً من الزمن