جعل الله تعالى مهمة حمل الرسالة الخاتمة التي بعث بها رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم في أعناق العرب سكان شبه جزيرة العرب، وكانوا ضعفاء مقهورين فقواهم الله وعرفتهم الدنيا بعد أن حملوا رسالة الإسلام، وقدموها للأمم الأخرى فاستجاب لهم كثيرون من أمم الأرض، وساعدوهم على نشر الدعوة، وهكذا عمَّ نور الاسلام معظم أرجاء المعمورة، وأزاح القوتين الكبيرتين فقضى على فارس وأضعف الروم في القرن الأول الهجري، وسوف نستعرض فيما يلي الأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية والأخلاقية التي كانت تسود في بلاد فارس.

الحالة السياسية والاقتصادية
كانت الدولة الساسانية تحكم بلاد إيران في القرن السابع الميلادي، ويكون الفرس مادة الإمبراطورية، ولكنها أخضعت الترك في بلاد ما وراء النهر، والعرب في العراق، وكانت حدودها الغربية غير مستقرة حسب قوتها، فأحيانًا تغلب على أطراف بلاد الشام كما حدث سنة 614م عندما اجتاحت بلاد الشام واستولت على بيت المقدس، ثم استولت على مصر سنة 616م.

ولم يستسلم هرقل إمبراطور الروم بل أعاد تنظيم بلاده وإعداد جيوشه وهزم الفرس في آسيا الصغرى سنة 622م، ثم استعاد منهم سوريا ومصر سنة 625م، ثم هزمهم هزيمة ساحقة سنة 627م= 6هـ قرب أطلال نينوى، مما أدى إلى ثورة العاصمة (المدائن) ضد كسرى الثاني، وعقد خليفته شيرويه الصلح مع هرقل، على أن أحوال الدولة الفارسية لم تستقر بعد ذلك، إذ تكاثرت الثورات والانقلابات الداخلية، حتى تعاقب على عرش فارس في التسع سنوات التالية أربعة عشر حاكمًا مما مزَّق أوصال دولة الفرس، وجعلها مسرحًا للفتن الداخلية، حتى أجهز عليها العرب المسلمون في حركة الفتح.

هذا عن الأحداث السياسية والعسكرية التي مرت على بلاد فارس، وأما نظام الحكم فكان كسرويًا مطلقًا، يقف على رأسه الملك، ولقبه كسرى، وصلاحياته مطلقة، وأحيانًا يوصف بصفات الألوهية، فكسرى أبرويز وصف نفسه بـ "الرجل الخالد بين الآلهة، والإله العظيم جدًا بين الرجال" مما يدل على الغرور والتعاظم في حين وصفه المؤرخون بـ "الملك الحقود المرائي الجشع الرعديد"، وبينوا اهتمامه الكبير بجمع أكوام الذهب والفضة والجواهر التي ملأت خزائنه عن طريق المظالم التي استغل بها بؤس رعيته، وكان يلجأ إلى المنجمين والكهان والسحرة لاستشارتهم في اتخاذ قراراته المهمة.

أما الحياة الاقتصادية، فقد احتكر الأقوياء الثروة ومصادرها، وانهمكوا في مباهج الحياة وملذاتها، وزادوا من ثرائهم بالربا الفاحش والمكوس والضرائب الثقيلة التي فرضوها على الضعفاء من الفلاحين والعامة، فزادوها فقرًا وتعاسةً، وحرَّموا على العامة أن يشتغل الواحد منهم بغير الصناعة التي مارسها أبوه، وكان العامة من سكان المدن يدفعون الجزية كالفلاحين، ويشتغلون بالتجارة والحرف، وهم أحسن حالًا من الفلاحين الذين كانوا تابعين للأرض، ومجبرين على السخرة، ويُجَّرُّون إلى الحروب بغير أجر ولا إرادة. وكان الجباة للضرائب لا يتحرزون من الخيانة واغتصاب الأموال في تقدير الضرائب وجبايتها، وكانت الضرائب تفرض بصورة اعتباطية وخاصة وقت الحروب.

الحالة الدينية والفكرية
لم يعرف الفرس الدين الحق، ولم تنتشر بينهم الأديان السماوية التي سبقت ظهور الإسلام إلا بنطاق محدود جداً، وكان أكثرهم على المجوسية، فمنذ القرن الثالث الميلادي صارت الزرادشتية دينًا للدولة، وقد تدهورت أخلاق رجال الذين الزرادشتي فوصفوا بالارتداد والحرص والاشتغال بحطام الدنيا، وحاول كسرى الثاني تجديد الزرادشتية وإحياء معابد النيران ونشر تفسير جديد لكتابها (الآفستا) وكانت عقوبة من يخرج عليها الإعدام.

وتقوم العقيدة الزرادشتية على الثنوية، أي وجود إلهين في الكون هما إله النور (اهورا مزدا) وإله الظلام (أهريمن) وهما يتنازعان السيطرة على الكون، ويقف البشر الأخيار مع إله الخير، والأشرار مع إله الظلام، وتقدس الزرادشتية النار، وقد أقيمت معابد النيران في أرجاء الدولة، ويعرف رجال الدين الزرادشتيون بالموابذة وكل منهم يرأس مجموعة يسمون الهرابذة وهم الذين يخدمون نار المعبد في كل قرية، وهذه المعتقدات الباطلة لا تقدر أن تهب النفوس البشرية الطمأنينة والراحة النفسية، ولا تشبع تطلعها إلى عبادة الله الواحد الحق، ولا تمنحها القيم الأخلاقية الرفيعة، ولا قواعد العدل الاجتماعي.

الحالة الاجتماعية والأخلاقية
كانت الحياة الاجتماعية في إيران تقوم على عمادين: النسب والملكية. فكان فصل النبلاء عن الشعب حدود محكمة "وكان لكل فرد مرتبته ومكانه المحدد في الجماعة، وكان من قواعد السياسة الساسانية المحكمة ألا يطمع أحد في مرتبة أعلى من المرتبة التي يخولها له مولده".

وتقوم الأسرة على أساس تعدد الزوجات، وشاع بينهم الزواج بين المحارم، وكان وضع المرأة يشبه وضع الرقيق حيث بإمكان الزوج أن يتنازل عنها لزوج آخر دون رضاها، كما شاعت عادة التبني للأولاد، وقد انتشرت الإباحية وعم الفساد الخُلُقي والاجتماعي خاصة عندما انتشرت المزدكية التي دعا إليها مزدك الذي وُلد سنة 487م.

ورغم مظاهر الضعف والفساد في الإمبراطورية الساسانية في وقت ظهور الاسلام وقيام حركة الفتوح الاسلامية، فإن من الخطأ المبالغة في وصف ضعفها، فقد تمكنت من حشد جيوش جرارة أمام تقدم المسلمين، وكانت جيوشها تتفوق عددًا وعدة على المسلمين، ولكن الإيمان الصادق وروح الجهاد ونصر الله للمسلمين هو الذي أكسبهم المعارك الطويلة التي خاضوها ضد قوى منظمة وجيوش متمرسة وقلاع حصينة وأمم عريقة[1].

[1] أكرم بن ضياء العمري: عصر الخلافة الراشدة محاولة لنقد الرواية التاريخية وفق منهج المحدثين، مكتبة العبيكان، الرياض، الطبعة الأولى، 1430هـ- 2009م، ص331- 334.