قراءات في الرقابة على دستورية تفسير القوانين
د. حيدر أدهم عبد الهادي/كلية الحقوق/ جامعة النهرين
تعد الرقابة على دستورية القوانين من الأساليب التي توفر ضمانة حقيقية لاحترام القواعد الدستورية إعمالاً لمبدأ سمو الدستور المتصف بصفة الجمود وهي صفة تتحقق إذا ما كانت إجراءات تعديل الدستور تختلف عن إجراءات تعديل القواعد القانونية العادية وبهذه الوسيلة تتحقق الحماية الضرورية للنصوص الدستورية المعبرة عن مجموعة الخيارات التي تبناها القابضون على السلطة في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وقد ظهرت فكرة الرقابة على دستورية القوانين أولاً في الولايات المتحدة الأمريكية رغم ان الدستور الفيدرالي الأمريكي الصادر عام 1787 لم ينص على حق المحاكم الأمريكية في رقابة دستورية القوانين لكن الحق المذكور تقرر بمعرفة القضاء وتأييد الفقه فكانت البداية مع قيام حالة النزاع بشأن دستورية أحد القوانين بولاية نيوجرسي سنة 1780 عندما قررت محكمة تلك الولاية بطلان قانون كان قد صدر بتشكيل هيئة محلفين من ستة أعضاء بالمخالفة لمبدأ دستوري يتطلب تشكيل هيئة محلفين من اثني عشر عضواً ثم تلا الحكم المذكور حكم صادر عام 1786 من محكمة مقاطعة رود أيلند عندما رفضت المحكمة تطبيق قانون غير دستوري على نـزاع عرض عليها، كما أصدرت محكمة كارولينا الشمالية حكماً بعدم دستورية قانون آخر سنة 1787 لكن الحكم المذكور قوبل بسخط الجمهور حتى صدر الدستور الفيدرالي الذي أنشأ المحكمة الفيدرالية العليا والتي لم تتردد في التصدي لمسألة مدى انسجام أو توافق القانون مع الدستور ورفض تطبيق القانون غير الدستوري في حكم صدر عام 1803 في قضية ماربوري ضد ماديسون وابتداءً من التأريخ المذكور استقرت المحاكم الأمريكية على ممارسة الرقابة على دستورية القوانين بعدة طرق منها طريقة الدعوى المباشرة وطريقة الدعوى غير المباشرة، فضلاً عن ممارسة الرقابة على دستورية القوانين عن طريق الأمر أو الإعلان القضائي وطريقة الحكم التقريري.
وفي الوقت الذي سارت فيه المحاكم الأمريكية باتجاه تبني أسلوب الرقابة القضائية على دستورية القوانين فإن التجربة الفرنسية قد اعتمدت أسلوب الرقابة السياسية السابقة على صدور القانون لمراقبة عدم الدستورية وهو الأسلوب الذي تبناه دستور عام 1946 ودستور عام 1958 رغم ان طريقة الرقابة السياسية قد ظهرت أول الأمر في بعض الولايات الأمريكية قبل تبني الدستور الفيدرالي إلا ان التجربة المذكورة فشلت في أمريكا بينما نجحت في فرنسا وإن كان النجاح المذكور قد تحقق بعد سنين عديدة.
إن ما تقدم يمثل محاولة أولية لفهم فكرة الرقابة على دستورية القوانين بمعنى إلغاء القانون غير الدستوري، وبهذا فإن هناك اختلافاً حقيقياً بين الفكرة المتقدمة وفكرة الرقابة على دستورية تفسير القوانين ففي الحالة الأولى نكون أمام قانون غير دستوري أي مخالف للدستور بصورة واضحة للمتتبع، بينما يكون الحال على خلاف ما تقدم في الحالة الثانية إذ ان القانون دستوري وغير مخالف للوثيقة الدستورية لكن تفسيره من جانب القاضي أو الموظف المسؤول يتم بطريقة غير دستورية أي ان نتيجة التفسير تكون غير دستورية، وهكذا فإن فكرة الرقابة على دستورية تفسير القوانين ستقود إلى التوسع في مجال الطعن بعدم الدستورية بشكل يؤدي إلى تحقيق تطبيق أكبر لمبدأ سمو الدستور، وإذا كان الفارق المذكور متواجداً على أرض الواقع فقد ربطت الدساتير ذات العلاقة بين مهمة الرقابة على دستورية القوانين ومهمة تفسير القانون. وسار القانون الأساسي العراقي لعام 1925 في الاتجاه المذكور فنصت المادة (81) منه على (تؤلف محكمة عليا... للبت بالأمور المتعلقة بتفسير القوانين وموافقتها للقانون الأساسي) وكذلك الحال مع دستور عام 2005 العراقي حيث نصت المادة (92/ثانياً) منه على انه (تختص المحكمة الاتحادية العليا بما يأتي:
ثانياً- تفسير نصوص الدستور) أي اننا طبقاً لرأي أول يمكن أن نقول ان من صلاحيات المحكمة الاتحادية العليا تفسير القوانين أيضاً رغم عدم وجود نص في دستور عام 2005 يمنح الاختصاص لها في هذا الجانب، مع ذلك فالاختصاص المذكور ثابت للمحكمة على أساس ان من يملك الأعلى يملك الأدنى فإذا كانت صلاحية تفسير الدستور ثابتة للمحكمة الاتحادية العليا فإن من باب أولى أن تمنح صلاحية تفسير القوانين العادية للمحكمة المذكورة أيضاً وهي في مرتبة أدنى من القواعد الدستورية ذلك إن دستور العراق يتصف بكونه دستور جامد وهو يتمتع بالسمو الموضوعي والشكلي.
الحجة الثانية التي تدعم منح الاختصاص المذكور تنبني على ان سلب المحكمة اختصاص تفسير القانون العادي سيتناقض مع مبدأ الاقتصاد في الإجراءات حيث ستقوم محاكم الدرجة الأولى بممارسة هذا الاختصاص حصراً في المراحل الأولى من نظر الدعاوى وعلى وجه الخصوص قدر تعلق الأمر بالقوانين الخاصة كالقانون المدني، وقانون الأحوال الشخصية، وقانون الشركات مثلاً، وتبقى المحاكم الأخرى الأعلى درجة جهة استئناف أو تمييز.
الحجة الثالثة التي تقف مع من يقول بمنح الاختصاص المذكور للمحكمة الاتحادية العليا تقوم على ان شكل الدولة الفيدرالي يدعم التوجه المذكور لضمان وحدة التفسيرات في الدولة الفيدرالية وعلى وجه التحديد في القوانين ذات الأهمية الظاهرة والتي تنظم طريقة ممارسة الفيدرالية باعتبارها نظاماً لإدارة التنوع وليس شيئاً آخر وربما الشكل اللامركزي في إدارة الوحدات المحلية، والقوانين المعنية في هذا الفرض هي قانون الانتخابات رقم 16 لسنة 2005، وقانون المحافظات غير المنتظمة في إقليم رقم 21 لسنة 2008 وهي أمثلة نشير إليها على سبيل المثال لا على سبيل الحصر.
الحجة الرابعة المؤيدة للرأي المتقدم تقوم على أساس ان تبرير منح الاختصاص المذكور للمحكمة الاتحادية العليا قائم على أساس فكرة الاختصاصات الضمنية المعبر عنها بقاعدة من يملك الأعلى يملك الأدنى وهذه فكرة يمكن لها أن تساهم في تطوير العمل القضائي وإبراز الدور المهم والإيجابي للقضاء في الحياة القانونية وبشكل مشرق.
الحجة الخامسة التي تقف مع الرأي الأول، والتي تمثل جوهر موضوع هذه السطور هي ان منح الاختصاص للمحكمة الاتحادية العليا في تفسير القانون العادي سيوفر ميزة أخرى ملخصها ضمان تفسير القانون العادي بحيث نتجنب ظهور تفسيرات غير دستورية للقاعدة القانونية العادية من جانب هيئات تنفيذية ويجري تطبيقها على أرض الواقع مما قد تترتب عليه آثار سلبية غير مقبولة ، فنحن هنا مع تثبيت الاختصاص للمحكمة الاتحادية العليا في تفسير الدستور والقانون العادي بحيث نستطيع ان نطلق على هذا الاختصاص انه يمثل نوعاً من الاختصاص المباشر في التفسير ونوعاً من الرقابة على دستورية تفسير القوانين، وهي رقابة سابقة على تطبيق القانون العادي أو النص الدستوري من جانب المحكمة الاتحادية العليا والمراد تطبيقه من قبل هيئة تنفيذية مثلاً.
الرأي الثاني يمكن أن ينبني على أسس مختلفة ليصل إلى نتيجة مفادها رفض منح اختصاص تفسير القوانين العادية للمحكمة الاتحادية العليا وذلك إذا ما تمسكنا بتفسير ضيق لظاهر نص المادة (92/ ثانياً) من دستور عام 2005 التي تمنح المحكمة الاتحادية العليا اختصاص تفسير الدستور وليس القانون العادي، وهذا يعني نتائج معاكسة وهي نتائج سلبية في مجملها تمثل رداً على إيجابيات منح الاختصاص للمحكمة الاتحادية العليا طبقاً لما أشرنا إليه في الحجج المتقدمة، فضلاً عن رفض هذا الرأي لفكرة الاختصاصات الضمنية، وهي فكرة معمول بها في نطاق القانون الدولي العام إذ طرحت في مناسبات جرى فيها مناقشة جوانب قانونية متعددة ذات صلة بالفكرة المذكورة فإذا كان الحال على ما ذكرنا في نطاق القانون الدولي العام فإنه من بابٍ أولى أن يتم تبني نظرية الاختصاصات الضمنية في الفرض المشار إليه.
من جانب آخر نطرح في السطور فكرة أخرى من الضروري الانتباه إليها وهي ترتبط بمضي المدد القانونية مع عدم تحقق أو ممارسة طعن بدستورية قانون معين فسوف نكون في هذا الفرض أم قواعد باتة تعبر عن فكرة النظام العام الإجرائي فهل إن سمو الدستور الشكلي والموضوعي يتجاوز هذه الأفكار بحيث نعمل القاعدة التي تقول إن ما ينبني على باطل فهو باطل ومن ثم فلا يجوز في كل الأحوال وفي جميع الأوقات تطبيق نصوص غير دستورية بصرف النظر عن النظام الإجرائي أو القواعد المنظمة بموجب نصوص المرافعات وهي قواعد ليست ذات طبيعة دستورية سواء تواجدت في قوانين المرافعات أو في قوانين أخرى وهذا يعني تجاوز حواجز المدد التي توضع لرفع بعض الدعاوى طالما ان القانون المطعون فيه غير دستوري ذلك ان هذه الفقرة من الضروري أن تعالج في إطار تفسير جوهر النصوص بحيث نغلب اعتبارات العدالة والمشروعية على الاعتبارات الإجرائية المرتبطة بخطوات رفع الدعاوى ونظرها أمام القضاء ذلك ان القول بعكس ما تقدم يعني ان لمبدأ سمو الدستور وعلو القاعدة الدستورية على القواعد القانونية العادية مفهوماً نسبياً وليس مطلقاً وهذا اتجاه غير مستقيم ذلك انه يعني تغليب قواعد إجرائية على نصوص دستورية متمتعة بسمو وعلو عليها كما انه من غير المقبول أن نعكس فكرة القاعدة التي تقول ان من يملك الأعلى يملك الأدنى ومن ثم فإن التوصية التي يجب أن يعمل بها في هذا السياق هو إيجاد آليات إجرائية خاصة للطعن بعدم الدستورية بحيث نتجاوز على وجه الحصر مشكلة المدد التي إن مـرت أصبح تقديم الطعن بدستورية قانون معين أو نص قانون أمراً غير جائز مع ملاحظة ان النظام الداخلي للمحكمة الاتحادية العليا قد جاء بآليات نظمت عملية الطعن بدستورية نص قانوني رغم اننا لا نقر التسمية التي استخدمها النظام الداخلي للمحكمة عندما تجاوز التسمية المتعارف عليها ألا وهي الطعن بدستورية القوانين.