الشورى في الوظائف العامة:
مما لا شك فيه شمولية الشورى للوظائف العامة لأنها من جملة الأمر الذي أرشد الله سبحانه وتعالى إلى التشاور فيه بقوله جل شأنه: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} وقد امتدح الله المؤمنين الذين يتحلّون بالشورى في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهم يُنْفِقُونَ}.
فاستطلاع رأي الأمة فيمن ينوب عنها في أمر من الأمور العامة المتعلق بها بهدف التوصل إلى إدارة شئون الأمة على الوجه الحسن هو من أهم الواجبات، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمرهم»، وقد كان من هديه صلى الله عليه وآله وسلم ألا يعطي الإمارة من سأله وحرص عليه، وإنما كان يأخذ بشورى المسلمين. ويقول صلى الله عليه وآله وسلم: «لو كنت مؤمراً أحداً دون مشورة المؤمنين لأمرت ابن أم عبد» ما ذلك إلا لأن التشاور يوصل إلى اختيار أفضل الأشخاص، ولأن بعض الناس بطبيعته يحرص على الإمارة والولاية ولا يقدّر ذلك بقدره، ولذلك ورد الترهيب في قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: «إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة» وجاء في حديث آخر: «يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها»، ما ذلك إلا لأن تولي الوظائف العامة لا تخلو من مخاطر ولأنها أمانة قد يصعب على البعض حملها وأداؤها، فمن ولي شيئاً من أمور هذه الأمة وجب عليه أن يحفظهم وينصح لهم، وأن لا يحابي في أمر من الأمور، فهي أمانة يجب أن تؤدى إلى أهلها، ولهذا جاء في الحديث النبوي: «من استعمل رجلاً من عصابة وفيهم من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين»، ولا يمكن الوصول إلى من هو الأفضل والأصلح دون استشارة ووضع شروط وضوابط خشية تحمل الأمة من لا تطيق حمله، ولهذا ورد النهي عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وورد في بعض الأحاديث بلفظ: «لا تسل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكِلت إليها وإن أعطيتها من غير مسألة أُعنِتَ عليها»، والنهي هنا عن سؤال الإمارة إنما هو للكراهة لأن الحرص عليها فيه مظنة طلب الظهور وحبه وفي ذلك تزكية للنفس، وقد ورد النهي عن ذلك في قوله تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ}، إلا إذا عرف الإنسان من نفسه القدرة وأن غيره لا يحل محله فإنه لا مانع من الطلب والتعريف بالنفس أخذاً من قوله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}، هذا بالنسبة للإمارة ذات الخطر العام والتي فيها معنى الإمارة والولاية وترتبط بمصالح الناس.
ولهذا فإن المناصحة للأمة تقتضي المشاورة فيمن يُختار في الوظائف العامة ذات الخطر العام، ونعني بالوظائف العامة هنا التي نرى ضرورة التشاور فيها ذات الولايات العامة وتتمثل في الآتي: الوزراء وكبار ضباط القوات المسلحة والأمن، وقيادات الألوية والكتائب وأمراء الجند والمحافظون ومدراء أمن المحافظات والولايات، ورؤساء المحاكم سواءً كانت ابتدائية أو استئنافية والمحاكم العليا، وما يقابل هذه الوظائف في الدولة الحديثة وما هو دونها من المناصب الإدارية والقيادية في الدولة المعاصرة بما في ذلك رؤساء وأعضاء مجالس النواب والشورى والحكومة، وما يأتي على رأس هذه الوظائف مثل منصب الخليفة أو الملك أو رئيس الدولة أو الإمام.
وقد استعرض فقهاء السياسة الشرعية في الإسلام كالإمامين الماوردي وأبي يعلى الفراء في كتابيهما عن الأحكام السلطانية الولايات المتعددة في الدولة وعددوا اختصاص كل منها، والشروط اللازمة لشغلها ولم يمنعوا أحداً يستجمع شروط وظيفة عامة عن شغلها لمانع عرقي أو طبقي، وكذلك فعل الإمام ابن تيمية عندما عرض للولايات في كتابه السياسة الشرعية، وبمعنى آخر فإنه قد يحقق في الإسلام مبدأ المساواة أمام وظائف الدولة، وهو أحد المبادئ التي يسعى فقهاء القانون إلى تحقيقها في الدولة المعاصرة، وهو لا يعني المساواة الفعلية بإلحاق كل مواطن في الوظيفة العامة، وإنما يعني أن يعامل جميع المواطنين نفس المعاملة في فرصة الالتحاق بالوظائف من حيث شروط الوظيفة والمؤهلات التي يتطلبها القانون ومن حيث المزايا والحقوق والواجبات والمرتبات والمكافئات المحددة لها دون تمييز طبقي أو اجتماعي.
فمبدأ المساواة في الدولة الإسلامية في الحقوق والواجبات هو مبدأ أصيل ويتمثل هذا المبدأ في أن جميع الناس سواسية في طبيعتهم البشرية، وأن ليس هناك جماعة تفضل غيرها بحسب عنصرها الإنساني أو انحدارها من سلالة خاصة، وأن التفاضل بين الناس إنما يقوم عن طريقة أخرى خارجة عن طبيعتهم وعناصرهم وسلالتهم، فيقوم مثلاً على أساس تفاوتهم في الكفاءة والعلم والأخلاق والتقوى وغير ذلك من الأعمال التي يقدمها كل منهم لربه ولنفسه ولمجتمعه ولإنسانيته.
ولما لمبدأ المساواة من الأهمية فإن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أعلنه في خطبة أيام ا