لا يوجَدُ إعجازٌ رسميّ يتعلّقُ بالرّسم القرآني؛ فالزّعمُ بوجود دلالاتٍ خاصّةٍ لحذف الحرف
أو إثباتِه تأويلٌ خاصّ وقراءَةٌ خاصّة ليسَت تنتسبُ بالضّرورَة إلى علوم القرآن بصِلَة، وليسَت من الإعجاز في شيء .
وأزعُمُ أنّ الإطالَةَ في هذا الضّرب من البحثِ لن تخرُجَ بطائلٍ يُضافُ إلى بلاغةِ القُرآن الكَريم وإعجازه البيانيّ وتفسيرِ مضامينِه ، والجَدَلُ في الرّسمِ إنّما هو جَدَلٌ في شكلِ الحروفِ التي هي في الأصلِ اصطلاحٌ وليسَ توقيفاً كتوقيفيّةِ ترتيب الآيات، وقد ذكرْنا في مَجالسَ ومقالاتٍ أنّ المكتَبَةَ القُرآنيّةَ تَخلو من هذا الضّربِ من الكتاباتِ؛ لأنّ العلماءَ رحمة الله عليْهم كانوا يعلَمون قبلَنا أنّ الرسمَ إنّما هو طريقَة تَصويرِ حُروف القُرآن الكَريم وكيفيّة ذلِك، وأنّ الرسمَ
و الخطَّ ركنٌ من أركان القراءَة [فَضائل القرآن لأبي عُبَيْد]، وقد كان همّ المتقدّمينَ وحاجتهم من الرّسم حفظ القُرآن الكَريم وصيانته من عَبَث العابثينَ بما كُتِبَ به من رسمٍ عثمانيّ أولَ مرّة.
وممّا أُلِّفَ في هذا الفنّ :
– مُختصَرُ التّبيين لهِجاءِ التّنزيل، لسُليْمان بنِ داود بنِ نَجاح،
– والبَديع في رَسْم مَصاحف عُثمان، لأبي عَبْد الله محمّد بنِ يوسفَ الجهنيّ،
– وأهمّ مَن ألّفَ في الرسمِ، ممّن يُرجَعُ إليْه في هذا الفنّ ويُتَّخَذُ حُجّةً:
أبو عَمْرو عُثمان بنُ سَعيد الدّاني (ت.444هـ): صاحبُ كتابِ «المُقْنع في معرفةِ مَرسومِ مَصاحفِ أهلِ الأمصارِ»، [تحقيق: نورة بنت حَسَن بن فهد الحميّد، دار التّدمريّة، الرياض، ط.1، 1431هـ-2010م]، الذي جَمَعَ ما يَحْتاجُ إليْه دارسُ القرآنِ الكَريم ومُفسِّرُه، والأهمُّ من ذلِك كلِّه أنّه -وهو الحجّةُ في بابِه- لَم يُشغَلْ ولم يُعْنَ بالتعليلات العقليّة التي هيْمَنَت على بعض الباحثينَ في عصرِنا هذا، ممّن تَمحّلوا واعتسَفوا وزَعموا أنّهم سيستخرِجون الجَديدَ الذي لم يَهْتَدِ إليْه القُدَماءُ ولم تَسْطِعْه الأوائلُ
(2)
انظرْ مثلاً في منهج كتابِ المُقْنع في معرفةِ مَرسومِ مَصاحفِ أهلِ الأمصارِ، لأبي عَمْرو الدّاني؛ لقد استعرَضَ ظَواهرَ الرسمِ الكتابيّةَ عَرْضاً في قراءات الأمصارِ من غيْرِ الْتفاتٍ إلى فرقٍ بينَ الكلمةِ مُثْبتاً فيها حرفُ المدّ والكلمةِ نفسِها مَحْذوفاً منها ذلِكَ الحرفُ رسماً، فقَد عَقَدَ فصلاً [ابتداءً من الصّفحَة 170] استعرضَ فيه الكلماتِ التي حُذِفَت منها الألفاتُ اختصاراً، من غيرِ
أن يَدور في خَلَدِه أن يُعلّلَ لِمَ حُذفَت الألف هنا وأثبِتَت هناكَ ، ولم يذكرْ أيضاً ما يزعُمه المحدَثونَ اليومَ أنّ الحُروفَ التي رُسِمَت بالخطّ العُثماني، على هيئاتٍ مُختلفةِ إنّما كانَ الاختلافُ من جهةِ اختلافِ المَعاني ، لم يَرِدْ ذكرٌ للعلل على لسانه ولا لسانِ غيْرِه، لأنه يعلمُ أنّ الرسمَ اصطلاحٌ ، وأنّ الكَتبَةَ كَتبوا بما كانوا يعرِفونَه من رسمٍ للحُروف ولم يوحَ إليْهم بشيءٍ
ولا نُبِّهوا على أشكالٍ وصفاتٍ معيّنةٍ للألفاتِ أو الياءاتِ .
فتبيّنَ بما سبقَ ذكْرُه أنّ الرسمَ القُرآنيَّ خُطوطٌ وكيفياتُ تصويرٍ لحُروف القُرآن الكَريمِ لتثبيتِ الحرفِ وحفظِه من التلاعُب والعَبَث والتّغيير. والله أعلم.
(3)
وهكذا، يظلُّ الذي يَدّعيه القائلون بدلالة الرسم على مَعْنى بعينِه، رأياً خاصاً بهم، لم تَجْرِ به قَديماً وحديثاً، عاداتُ البحث العلميّ التي تعتمدُ على أدلّة منطقيّة ومادّيةٍ من غير تمحّل وتأويل، فالربطُ بين الرسم وإعجاز المَعْنى رؤيةٌ خاصّةٌ لا برهانَ بها إلاّ ما كان من مُحاولَة إقناع القارئ بشيء يَراه الكاتبُ ولا يَراه القارئ، ومَثَلُ الخوضِ في هذه الخَواطِرِ غيرِ المُعلَّلَة ، كمَثَل الذينَ يربطونَ الصوتَ المفرَدَ اللّغويّ المجرّد بالمَعْنى ويتمحّلون ويؤولون لبلوغ المرام كَمَن يَدّعي أنّ حرفَ الفاء في الآيَة يوحي بكذا وحرف القاف يدلّ على كذا وهذه رؤىً وخَواطرُ خاصّةٌ تَلوحُ كَباقي الأحلام بعدَ المَنام.
(4)
وأختمُ سلسلةَ الرّدّ على مَن ادّعى أنّ في الرّسمِ القرآنيّ إعجازاً بما يَلي :
لم يَردْ في مصدر من مصادر العلم بكتاب الله أن الرسمَ إعجاز، وإنما الرسمُ اصطلاح لأنه جَرى عَلى سَنَن الكتابَة ، وقَد ورَد في كتاب المَعارف لابن قتيبة الدينوري: «أن أولَ مَن كتبَ بالعربية: مُرامِرُ بنُ مُرّةَ من أهلِ الأنبار ثم انتشَرَت الكتابَة من الأنبار في الناسِ. وقالَ الأصمعيّ : سُئلَ أهلُ قريشٍ: من أين لهم الكتاب؟ أي الكتابَة، قالوا: من أهل الحيرة، وقيلَ لأهل الحيرة: من أين لكم الكتابُ قالوا: من الأنبار »