( هناك ...حيث توقّف الزمنُ)
شاهراً إصبعه نحو مكانٍ بعيدٍ قال لي : "أتريد أن تذهب إلى هناك؟"
" هناك أين؟" ، سألته.
" هناك حيث توقّف الزمنُ" .
"وكيف باللهِ يتوقّف الزمنُ؟" ، أجبته.
قال : " تعال معي وسترى".
امتنعتُ.
" لا. لن أذهب معك إلى هناك. أأذهب إلى حتفي بأقدامي؟ أليس بالموتِ وحده يتوقّف الزمنُ؟ لا بدّ أنك ما إن أصل ستقتلني".
ضحك عليّ وقال : " أيها الحذقُ الغبيُّ. ليس بالموتِ يتوقّف الزمنُ بل بالحياة".
قهقهتُ لحكيهِ الغريبِ العجيبِ : " وها أنا أعيش ومقصّ الوقتِ يقلّمُ أظافر أيامي ، وها أنا بالسعادةِ أحلمُ وعقارب الساعةِ تلسع بالوقتِ أحلامي".
أجابني : " هذا لأنك تعيش ولا تحيا"
"وما الفرق؟" ، سألته.
"الفرق بين العيشِ والحياةِ كالفرقِ بين الحرفِ والكلماتِ".
قلتُ له : " لم أفهم".
قال : " ذاك الحرفُ صّلْدٌ جافٌ مملٌ كئيبٌ ، من آلامِ العيشِ يعاني ، وتلك الكلمةُ مجموعةُ أحرفٍ قد تعاضدتْ فأزهرت في حياتِها المعاني".
قلتُ له : " أيضاً لم أفهم".
قال : " الحرفُ يعيشُ لنفسه فيبردُ وحيداً في صقيعِ الليالي ، والكلمةُ تدفىء حروفُها حروفَها ، فتحيا بخيرٍ وجمالِ ".
قلتُ له : " وأيضاً لم أفهم".
قال : " العيشُ صفحةٌ بيضاءُ ، يكوّرها الوقتُ ، كلّما طال في الزمنِ سُباتُها ، والحياةُ وإن رحلتْ ، تنتصرُ على الريحِ وعلى الوقتِ بكلماتِها ".
قلتُ له : " ما زلتُ لم أفهم".
فقال : " لو لم يكن للحرفِ حرفٌ يلاقيه ، ويمسك بيديه ويقويّه ، ويحميه في الشدّةِ ويفديه ، لتمكّن منه الوقتُ وراحَ، قبل أن يفنيه الموتُ ، يفنيه.
قلتُ له : " لا تيأس مني. لكني أيضاً لم أفهم".
قال : " إذن هلّم معي إلى هناك".
وشدّني من يدي ومثل الطفلِ جرجرني.
ولما وصلتُ ، وبجهد جهيدٍ ، إلى الأمامِ نظرتُ ،
رأيتُ طيفُها يقترب من بعيدٍ.
هذا وجهها. هذه مشيتها. هذه طلّتُها.
وهذه الضحكةُ ضحكتُها.
وتلك ...تلك هي الأحضانُ.
ولمّا عيني بعينها التقتْ ،
ورعشتي إلى نور الله ارتقت ،
صرختُ "حبيبتي" وغمرتُها
وتوقّفَ بحضنِها الزمانُ.
ربيع دهام