أ.د. قاسم حسين صالح
رئيس الجمعية النفسية العراقية
من الشائع لدى البشر في كل المجتمعات أنهم يتباهون بما لديهم من مال وحلال أو جمال أو مكانة أو أولاد ... الا العراقيون فأنهم على ما أرى ( المؤلف ) مغرمون أو مهوسون بالتباهي بالهموم والأحزان . لاحظ ذلك في نفسك أو بين أصدقائك . فما أن يبدأ احدهم بالشكوى من
همّ أو ضيق حتى يبادره الآخر، بل يقاطعه قائلا : (يأخي انت زين ..لكن لو تشوف آني ..) ويروح مسترسلا يروي بألم أكثر ما حلّ به، وبدراما تصور للمقابل وكأن مصائب الدنيا وقعت كلها فوق رأسه !.
وفي ( الدارمي ) وهو أبلغ ألوان الشعر الشعبي، وراوية الحزن العراقي، حكاية تفي بأيصال المعنى، مفادها : أن امرأة ذهبت الى صديقتها تشكو حالها، فقالت لها :
( ما تدري بيّ الناس العلّة خفية
بالكلب سبع أزروف ويلاه يخيه )
أي : ان الناس لها الظاهر ولا تدري ياأخيتي بأن الهموم قد أحدثت سبعة ثقوب في قلبي .
وكان المفروض بصديقتها أن تواسيها وتهون عليها الأمور . لكنها أجابتها بالدارمي ايضا :
( نيالك بدنياك بس سبعة ازروف
الكلب منخل صار بيه العمى يشوف )
أي : سعيدة انت بدنياك اذا كان في قلبك سبعة ثقوب فقط، فأنا قلبي صار منخلا يرى من خلاله حتى الأعمى ! .
ولهذه الحالة ( التباهي بالحزن )أسبابها النفسية . فالعراق يكاد يكون البلد الأكثر تعرضا للكوارث والحروب والفواجع والمحن .. بدءا من الطوفان وصولا الى ما هو عليه الآن . وأظن أن أول تراجيديا في العالم كانت في العراق .. أعني تراجيديا جلجامش وأنكيدو . واظن ايضا أن اقسى تراجيديا كانت على أرضه.. أعني أحداث واقعة كربلاء . ومنذ ذلك التاريخ ( 61هج ) وألى الآن حكمت العراق أربعة أنظمة ( الأموي والعباسي والعثماني والبعث ) كانت قاسية جدا في ظلمها للناس وبطشها بالخصوم . حتى أنه مرت أزمان على العراقيين ما خلا فيها بيت من كارثة . والأقسى أن السلطة كانت تمنع أهل من تنهي حياته أن تقيم مجلس عزاء لفقيدها . وهذا يعني في فعله النفسي اشراط أو اقتران الحزن بالظلم والقسوة الذي يؤدي الى تكثيف التعبير عن الحزن بانفعال أشد.
وثمة مسألتين نفستين نوجزهما بالآتي :
ان المكّون السلوكي للأنفعالات يكون أما شفويا ..كلام، واما بلغة الجسد ..اشارة ..حركة. ويتفق علماء النفس على أن لغة الجسد تكون أصدق أحيانا من لغة الكلام، وأن تعابير الوجه هي الأكثر تعبيرا عن الحزن من اللسان . ويطرح آخرون فرضية اسمها ( التغذية الراجعة لتعبير الوجه ) مفادها أن عضلات الوجه وارتعاش الشفتين وسيلان الدموع علىالخدود، أو مشهد العينين وهما تبكيان بصمت ...ترسل اشارات الى أكثر من مركز في الدماغ تعمل على تنشيط الجهاز العصبي الخاص بالأنفعالات ( الهيبوثلاموس، الأمجدالا،... ) يؤدي بدوره الى تصعيد الأنفعال لدى أطراف الحدث المشاركين في المشهد .
ومع أن تعابير الوجه عن الحزن تكاد تكون متشابهة عند خلق الله، الا أن الملاحظ على العراقيين أنهم يضخمون أو يبالغون في التعبير عنها . وهذا ناجم في واحد من أسبابه النفسية عن هول ما أصابهم من فواجع ومحن وكوارث عبر أكثر من ألف سنة ..جرى التعبير عنها بمشاركة وجدانية اقتضى الحال أن تكون بمستوى الفجيعة. ثم تحول هذا التعبير، عبرتكرار الفواجع وما صاحبها من تعزيز، الى تقليد، حتى صار من غير اللائق اجتماعيا أن يكون الأنفعال هادئا أو باردا في مواساة من كان انفعاله ملتهبا .
ولأن الفجيعة كانت بين العراقيين مثل كرة السلة، فأن العراقي كان يشارك بانفعال حار أخاه المفجوع، ليس من جانب أنساني فقط، انما ايضا – وهذا أهم – لأن الفجيعة ستحل بالآخر يوم ما، وعلى المقابل أن يردّ الفضل ساعتها . والغالب عند العراقيين أنهم يردون الفضل بأحسن منه . فأن كان الفضل بكاء ساعة مثلا، فأن ردّ الفضل يكون بكاء ساعتين وأن أمكن فبأكثر !. والمثل يقول ( دين بدين حتى دموع العين ) .
والشائع عن النساء في كل المجتمعات أنهن عاطفيات، يعبرّن عن انفعالاتهن بشكل أشد وأعمق، حتى صارت العواطف مرادفة لـ ( الأنوثة )، وتحديدا الأنفعالات الرقيقة والحزن في مقدمها . فيما الأنفعالات الخشنة مرادفة لـ ( الرجولة ) والغضب في مقدمها. ولو تمعنا في العواطف الرقيقة ( الأنثوية ) لوجدنا أنها مقتصرة على ما يمكن تسميته بـ ( الأنفعالات العاجزة ) من قبيل : الحزن والقلق والخوف، وهي انفعالات تعمل على أن تجعل الفرد يبدو ضعيفا وعاجزا . والمسألة النفسية هنا، هي أن الأنسان يتعاطف أكثر مع الأنسان الضعيف العاجز، وأن هذا العاجز تدرب على تجسيد انفعال الحزن، بفعل تكراره، فصار ماهرا في تمثيل دوره، فكيف اذا كان هذا الأنسان هو المرأة !.
ولأن الحزن في المجتمع العراقي كان بحجم فواجعهم، فأنه اختار المرأة لتكون بطلته . ولقد أجادت و (أبدعت ) في تجسيد هذا الدور بدراما تراجيدية . فكما في المسرحية التراجيدية، فأن في مأتم الحزن النسائي العراقي أكثر من جوقة، تتصدرها جوقة النائحات اللاتي يجدن الصراخ والعويل، وجوقة اللاطمات على الخدود، وجوقة ناثرات الشعر وشاقات الصدور ...، تقودهن قائدة أوركسترا المأتم – ( الملاّيه )- في ايقاع يجمع هذه الجوقات ويوحدهّن في مباراة بينهن، في أيهما تجيد دور التعبير عن انفعال الحزن، وأيهما كان لها التأثير الأكبر بين الحاضرات المشهد .
وبعد أن تعلن قائدة الأوركسترا - ( الملاّيه ) - عن فترة استراحة، فأنه يتم فيها تقويم للمشاركات على وفق معايير ( موضوعية ) من بينها :شدة احمرار الوجه، ولا بأس اذا كان مخرمشا بالأظافر، أوسيلان الدم على الخدود، أو تقطيع شعر الرأس، أو تمزيق الملابس، أو شدة بحة الصوت، أو من كانت قد أغمي عليها صدقا أو هستيريا .... وتحظى الفائزة منهن بالأهتمام والتعاطف والاطراء والمديح على وفائها وطيبتها وصدق مشاعرها .
والغريب عند العراقيين، والمرأة بشكل خاص، أنهم ماضون بالتباهي في التعبير عن أحزانهم وطول حدادهم، بالرغم من أنهم جزعوا منها، وفي أعماق كل واحد منهم صرخة تصيح :
أما لهذه الأحزان من آخر !! .