جِثير اگزازك بروحي
واگولن هاي حِنيّة
............من.نوابية ولا أزود ...
............................
الخيميائية عند مظفر النواب ..
د. حسين سرمك حسن
بغداد المحروسة – 8/12/2014
(( جفنك جنح فراشة غض .. وحجارة جفني وما غُمض ))
( مظفر النواب )
من قصيدة ( حن وآنه احن )
(( چثير گزازك بروحي .. وأ گولن هاي حنّيه ))
( مظفر النواب )
من قصيدة ( ولا أزود )
.... و«الخيميائي» هو المبدع المعلّم «مظفر النواب» الذي حوّل تراب اللغة والثقافة العامتين إلى ذهب ولآلئ. قبل النواب كانت العامية أداة ثانوية لدى شعراء العاميّة ، تُستخدم المفردات في القصيدة أو البيت الشعري مثلما تُستخدم في الحياة اليومية ، والفارق هو في «تنظيميها» و«ترتيبها» حسب التفعيلة العروضية ، لتعطينا موسيقى البيت. كانت المفردة مُهملة في بعديها النفسي والشعري لعقود طويلة إلى أن جاء النواب ليفرك عنها الصدأ ويجلوها فتستعيد بريقها الذي خطف الأبصار.
كان الشاعر يستخدم اللغة العامية كأداة أو (آلة) مثلما يستخدم المصور الفوتوغرافي القديم عدسته، بعد أن يجلس الزبون بانتظام أمامها، لأخذ أتقن «لقطة» وليس أفضل (صورة) شعرية. ولم تكن لغة الشاعر /عدسته بحاجة لأكثر من أن تكون «صافية» وغير مضببة لتؤدي دورها المرسوم. مع النواب يمكننا الحديث عن مصطلح استُهلك وأُفرغ من محتواه بفعل مدّ الفهم الخاطئ للحداثة وما بعد الحداثة ، ألا وهو «تفجير اللغة». لقد فجّر «مظفر» المفردة العاميّة وأطلق طاقاتها المحتبسة ، منطلقاً من الفهم الخلاق لدور الشعر ، وهو أن يمنح المفردة دوراً جديداً باهراً ومعانٍ جديدة باذخة تتجاوز معناها القاموسي أو التداولي. إنّ من أهم سمات الشاعر هو أن يجعل ما هو غير شعري شعرياً، والأهم أن يضع المفردة البعيدة عن إثارة أي انفعال ضمن سياق يجعلها تصيب النفس البشرية برجفة ، ويرتفع بالمفردة من قتامة تراب الواقع إلى بهاء المخيلة ورهافة علاقات الصورة الشعرية المحكمة. خذ مفردة «حجارة» مثلاً تجدها صمّاء بكماء لا تثير في أعماقك أي استجابة.لكن انظر كيف تتلاعب بها أنامل الشاعر الساحرة .
يقول النواب:
«جِفْنَك جِنِح فرّاشه غضْ - و(حجارة) جفني وما غُمَضْ»
وهنا ينشئ الشاعر علاقة (مقابلة) و (مقارنة) بين جفنين: الأول وهو جفن المحبوب المُترف الهش، أمّا الثاني فهو جفن المُحب الأرِق المعذّب. والنواب يوقعنا في مصيدة محاكاة فريدة وغير مألوفة - خارج الشعر طبعاً - فالجفن المشابه لجنح الفراشة الغضّ يقابله الجفن المشابه للحجارة، لكن علاقة جديدة تظهر من خلال الفعل (ما غُمَض) حيث تتعدى الصورة حدود المقارنة بين الغضاضة والصلابة إلى المقابلة بين النوم والأرق المطلق، وأقول المطلق لأن تشبيه الجفن الأرِق بالحجارة يمثل أقسى درجات السهر، بل إنها حالة «ما بعد الأرق».
إنّ وصف الجفن بالحجارة يسلبه أي فعل توحي به الحركة الطبيعية المعتادة في إغماض الجفن وفتحه ، والتي تقابل الحركة المرفرفة التي تعكسها حركة جنح الفراشة، إننا نقف في المستويات الأعمق للصورة - بين مثالين: واحد للحياة (جنح الفراشة الغض) وآخر للموت (الحجارة) .
ولو راجعت شعر (مظفر) بأكمله - بالعامية أو بالفصحى - فستجد هذه السطوة الواضحة للمثكل/ الموت ، ومحاولاته - أي الشاعر - المستميتة للخلاص من منجله الباشط، فالنواب يخشى الموت برغم كل ما يظهره من روح فدائية، ولولا ضعفه الداخلي والذي يخفق كجناح الفراشة الغض بفعل القلق المحض لما أنعم علينا بهذا المنجز الشعري المقاوم والسلوك الرافض الذي لا يهادن - وهذا الاستنتاج لا يتعارض مع تحليلنا السابق عن إرادة المبدع المقاومة للموت وتفاؤليته الجبّارة نضالا وحياة ، مادامت النفس البشرية تستطيع تكوين حفزاتها السلبية عكسيا – reaction formation لتحولها إلى سلوكيات إيجابية خلاقة .
انظر الآن إلى توظيف الشاعر لحرفي: الحاء والجيم في مفردتي: جنح وحجارة، وارتباطهما بمفردتي : جفنك وجفني اللتين تبدءان بحرف الجيم المسالم والمتعادل الشحنة الانفعالية في حين أن حاء الـ (جِنِح) تبدو أقرب إلى الهمس وامتداد زفرة حييّة قصيرة، أما (حاء) و(جيم) الحجارة فالأولى تستدعي التركيز بحرقة وبشيء من الفحيح الصارم الذي يعزّزه المدّ والانطلاق في لفظ الحرفين التاليين (جا). أننا كمن يسترخي بانكسار الإيقاع النفسي في التواصل بين حاء (جنح) و(الفتحة) على فاء (فراشة) ، ويُستفز بنقلة الإيقاع من سكون حاء (حجارة) الحارقة إلى فضاء مديد توفره (فتحة) الجيم وسكون (والسكون لايعني هنا الجمود والوقف ، هذا خطأ لأنه يجسد حركة نفس مفتوحة على الألم والوجع الذي لا حدّ له، السكون في الشعر حركة) (ألف) حجارة.
وليس عبثاً أن الشاعر يبدأ صدر البيت بمفردة (جفنك) ، ويلحقها بالوصف الرخي (جِنِح) في حين يبدأ عجز البيت بالوصف (حجارة) ليلحقه بالموصوف (جفني)، لأن تقرير ما هو باعث على الاسترخاء والمغالاة في وصف ما هو (طبيعي) يسير عادة على طريق إلحاق الفعل بالفاعل ، (والنواب) جعل الاسم (جِنِح) فعلاً ملحقاً بـ (جِفْنَك)، في حين أن وصف مـا هو غير طبيعي ومفاجئ ولا سويّ يفرض إلحاق الفاعل بالفعل ، والنواب جعل الإسم (حجارة) (فعلاً) لأن الحرقة النفسية واللوعة الماحقة تفرض ذلك ، وكأن العاشق يلوّح بـ (الحجارة/ الجفن المعذب) أمام حبيبه كشارة إنهمام وهيام ووفاء.. وقد ترسخ هذا الفعل في نفس المتلقي من خلال «الجناس» الغائر بين الفعلين: (غض) و(غُمَض) إن اللغة بالنسبة للنواب هي مطيّة اللا شعور كما قلنا في الدراسة السابقة ، وليس أداة للتفاهم يخلقها الشعور المتنفّج ، فهنا - في لغة عامية - يحول حرف (الميم) وجهة فعل هادئ ومستريح (غمض) نحو فعل أكثر إيغالاً في الطمأنينة (غُمض) لأنّ - وقد يتيح لنا هذا المدخل إنضاج نظرية جديدة في كيفية نشوء اللغة جرّاء صراع لا شعورين - الميم المفتوحة تعكس هدأةً واسترخاءً ، فنعاس ، فغيبوبة نوم، أي أننا نقف أمام نوع من الطباق النفسي إذا جاز التعبير بين (غض) و(ما غمض).
وتظهر الصنعة الاحترافية العالية لدى (النواب) في التعامل مع جرس الحرف واستثمار موسيقية تكراره في مواضع كثيرة جداً من قصائده. خذ مثلاً تتابع حرف الحاء في بيتين من نفس القصيدة (زرازير البراري) حيث يقول :
(حنّي بفواريز ولحن حنّة حمامات السجن
حنهّ إلي.. وحنّه إلك..
واللي يعجبه خل يحن
حِن.. بويه حن)
ثم انظر إلى سحر تلاحق مفردات تختم بحرف الظاء والضاد في قصيدة (يا ريحان): (والگيظ إجانه وانگضه .. ورد انگضه..
ورد گيظ إجه
والزلف هجرك فضّضه
ورد فضّضه
وما مش رجه)
وخذ هذين البيتين من قصيدة (چذّاب) حيث الوقفات المرهفة غير المحسوسة لحرف الباء: (چم دوب؟
مو گلنه الكلب..
بطّلْ ومنّك تاب`
چذاب يا گلبي.. يا ثعلب..
من گبل چذاب)
وهناك الكثير الكثير من النماذج التي تحفل بها قصائد النوّاب والتي يستخدم فيها المفردة بدراية وحسب اشتراطات صنعة محترف، اشتراطات لا تلغي، بطبيعة الحال، تلقائية الأداء ، بل تلتحم بها لتتمظهر بعفوية فائقة تنضج درجتها حساسية لا شعور المبدع، فعلى سبيل المثال، وعودة إلى البيت الأنموذج التطبيقي الذي بدأنا به، نقول : إنه كان بإمكان النواب أن يقول في العجز: وجفني حجارة.. إلخ لكنه سيجهض فعل التساؤل والإدهاش الذي تثيره مفارقة مجيء مفردة (حجارة) بعد (غُضَ) مباشرة ، والذي تثيره طبيعتهما ، وهي صارخة التناقض ، لأن بدء البيت بمفردة ( جفني ) يخلق تطابقاً مع (جفنك) في بداية صدر البيت ، ويهيئ المتلقي لاستقبال المقارنة ويضعف صدمته بها، من ناحية ثانية كان بإمكان الشاعر أن يقدّم البيت الثاني على الأول فيكون السياق: «حجارة جفني وما غمض - وجفنك جنح فراشة غض» لكن عنصر الدهشة القائم على المفارقة سيضعف ، لأن القارئ يميل تلقائياً إلى "غلق – Closure" – حسب قواعد الجشطلت - دائرة الصورة فتأتي صورة الرفاه والنعومة والاسترخاء في البيت الثاني لتكسر حدة عذاب وسخونة البيت الأول، تأتي الدهشة دائماً من الألم الفائق.. من حضور الموت وليس من الحياة المحضة الرتيبة. إن أعلى مستويات الجمال هو الجمال المهدّد .. وحين يحضر الموت يستعيد وجه الحياة بهاءه الفّذ . في قصيدة «ولا أزود» يقول النواب:
«چثير إگزازك بروحي .. وأگولن هاي حنّية"
المفردات ملقاة على قارعة الطريق بتحوير عبارة (الجاحظ) الشهيرة: المعاني ملقاة على الطريق، ينتقي الشعراء العاديون المفردات (الشعرية) لتساعدهم في تصوير مشاعرهم، وانفعالاتهم وأفكارهم ويتجنبون المفردات السوقية المبتذلة . أما الشعراء الاستثنائيون فيجدون أي مفردة صالحة للشعر مهما كانت مبتذلة و " لا شعرية " ، إنها تشكل اختبارا حقيقيا لقدراتهم على الخلق وتحويل تراب المفردة إلى ذهب القصيدة . إنهم في حالة صراع دائم مع امكاناتهم وأدواتهم من ناحية ، وفي سعي دائب مضنٍ لتقديم التجسيد الأشد دقة وضراوة لانفعالاتهم واحباطاتهم اللائبة من ناحية أخرى.
ولا أعتقد أن مفردة (گزاز) قد استخدمت في الشعر العراقي العامي قبل النواب، ولا توجد أي مفردة عامية أخرى تقف إلى مصافها أو توازيها قدرة على أن تعكس درجة تمزّق روح الشاعر وتعسّف المحبوب الذي بلغ حدوداً ساديّة يقابلها المحب باستقبال مازوخي ، فيعتبر هذا الكم الهائل من الوجع المدمّر حباً و(حنيّة) ، و(الگزاز) هو شظايا الزجاج ، والمفردة تتضمن (الكثرة) بطبيعتها ، ولكن الشاعر ضاعف هذا التكثير أضعافاً مضاعفة بمفردة (چثير) ، ولم يستخدم مفردة (هواي – كثير ) متعمداً رغم أنها تعطي المعنى نفسه، لكن جرس الثانية الحروفي بابتدائها بالهاء وانتهائها بالياء أخف بكثير من وقع جرس الأولى، وهي تبدأ بالجيم المعطّشة.. ولو راجعت تاريخ الشعر العامي العراقي لن تجد استخداماً واحداً موفقاً لمفردة (زرزور) أو (زرازير) . في العادة يستخدم الشعراء مفردات (ممتلئة) مثل طير، طيور، عصافير، بلبل، صقر، نسر.. لكن الزرزور.. المسكين يقابل بالاستخفاف الشعري عادة. فهو صغير جداً ولا توجد فيه لمسة جمالية في صوته أو في شكله .. فما الذي وظّفه (مظفر) وهو يلتقط هذا الكائن المهمل كحضور وكمفردة:
(عيونك: زارزير البراري .. بكل مرحها
بكل نشاط جناحها
بعالي السحر ... ) هل نحن بحاجة إلى نقد وتفسير أكثر ؟
أليس هذا هو الخيميائي؟
ولو راجعت المنجز الإبداعي العامي للنواب فستجد العشرات من مفردات اللغة العامية التي كانت، بفعل رتابة التعوّد وطبيعة المفردة (الحجرية)، قد صدأت واندثرت تحت طبقات من غبار بلادة الاستعمال، إلى أن امتدت أنامل الخيميائي الماهرة لتزيح، باقتدار، ركام الغبار وتفرك الصدأ عن تلك المفردات وتجلوها ثم تحوّلها، بالحل السحري الشعري من حجر إلى ذهب، خذ مثلاً: (المزبن واللّف، إنگز، غرشة، ليطة (شوكة)، مدگّگ، نرگيلة، مِيلَن (ابتعدن) ، يِشرِگ ( يشرق )، زردوم، نعجة، جاموسة، اتمزلگ، نَگِش، إِلبِدْ، اللّجْعة، زِحِير، اتّلني، ناموس، سِبُوچ، نلگطچ، شُكبّان، سُمّاگ، حَزّه، مرارتي، الجتّات، اسْلِتْها، انْوَچّي، اتغرْنَگِتْ، رَصْعة، فَرَفحِت، يَيْزِي، رازونة، الرَزّة، افْطِرّه.. وغيرها