تحفظ عليها سقراط وأربكت كانت وهيغل.. هل خدر الفلاسفة الثورات أم نظّروا لها؟
هيغل وسقراط وكانت غيروا بفلسفتهم التفكير الإنساني (مواقع التواصل)
عمران عبد الله
لم يكن الفيلسوف اليوناني سقراط ثوريا، ولم يسع للإطاحة بالحكم، رغم منهجه التشكيكي في المعتقدات السائدة. ورغم كونه رفض إطاعة الطغاة الثلاثين الذين سيطروا على أثينا وعارض المطلب غير الدستوري للقائد اليوناني كاليكسنيس، وأدين في محاكمته بإفساد شباب أثينا رافضا طلب العفو، لكن فكره الفلسفي ومفهومه عن "الفضيلة هي المعرفة" كان ثورة من نوع آخر غيرت مسار التفكير الإنساني.
وفي المقابل، كان أفلاطون وفيا لفكرة قيام مجتمع جديد راديكالي "جذري" في محاوراته "الجمهورية". ومع ذلك أبدى كارل ماركس -في زمن متأخر- إحباطه من قيام الفلسفة بمحاولة تفسير العالم مقابل الفشل في تغييره.
ويرى مؤرخون للتاريخ الفلسفي بينهم الأكاديمي الأسترالي مارك مانولوبولوس أن الفلسفة كانت وستظل ثورية، و"للأسف نسي بعض الفلاسفة دعوتها الراديكالية أو تجاهلوها". لكن لا تلبث روح التمرد الفلسفي أن تعود مؤكدة على جوهر الفلسفة الجذري.
وفي العصر الحديث، كان لدى الفيلسوف الوجودي الفرنسي جان بول سارتر الكثير ليقوله عن الثورة والتمرد، وكان معجبا بالثوري الأميركي اللاتيني تشي جيفارا، وزاره في كوبا، وقبل سارتر كان لدى الفلاسفة الفرنسيون الكثير من الأفكار حول الثورة والتمرد.
مفهوم سقراط عن "الفضيلة هي المعرفة" كان ثورة غيّرت مسار التفكير الإنساني (مواقع التواصل)
الثورة الفرنسية
في القرن 18 برز العديد من المفكرين الفرنسيين الذين ألهموا الثورة 1789-1799، ومنهم فولتير وجان جاك روسو ومونتسكيو ودنيس ديدرو، وشجعت أفكارهم الثورية الجماهير الفرنسية على القتال من أجل حقوقهم، كاشفين عن عدم كفاءة الملك وحكومته.
وأثار هؤلاء الفلاسفة وغيرهم الشعب لتحدي السلطة عبر كتاباتهم، وهاجم فولتير الكنيسة الكاثوليكية، وآمن أن "مصير الإنسان بين يديه وليس في الجنة". وشجعت أفكاره الناس على القتال ضد امتيازات وهيمنة الكنيسة.
وتناولت فلسفة مونتسكيو الملكية الدستورية وتقسيم السلطات، إذ كان يعتقد أن جميع القوى يجب ألا تتركز في يد شخص واحد، في حين طرح جون لوك أفكارا تدحض الحقوق المطلقة "الألوهية" للملوك.
وأكد روسو على مبدأ الديمقراطية والسيادة للشعب، وكان يعتقد أن الحكومة يجب أن تقوم على أساس من موافقة المحكومين، وتناول بكتابه "العقد الاجتماعي" طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم باعتبارها عقدا بينهما، وتضمنت أقواله حق الناس في تغيير حكومتهم إذا لم يكونوا راضين عنها.
وهكذا كانت أفكار الفلاسفة هجوما مباشرا على الامتيازات والحقوق الإقطاعية التي كانت تحمي الطبقات العليا، وساعدوا في إثارة الناس من الخمول وغرس الرغبة في القضاء على عدم المساواة الاجتماعية وتشكيل حكومة تستجيب لاحتياجاتهم، وقد لعبوا دورا حيويا في تشجيع السخط وإلهام الثورة.
لكن مع حلول منتصف تسعينيات القرن 19 وحلول "عهد الإرهاب" خلال الثورة الفرنسية، برز فلاسفة ضد تيار "التنوير" وضد فلاسفته الثوريين، وأبرزهم إدموند بيرك الذي ربط الفلاسفة التنويريين بعدم الاستقرار في فرنسا، وأيضا جوزيف دي مايستري الذي اعتبر "الثورة عقوبة إلهية عن خطايا التنوير" وأوغستين بارويل الذي جادل في "مذكراته التي توضح تاريخ اليعقوبية" (عام1797) أن الثورة نتيجة مؤامرة من الفلاسفة والماسونيين.
وألقى هؤلاء وغيرهم باللوم على حركة التنوير وفلاسفته الذين قاموا بتقويض المعتقدات التقليدية التي حافظت على النظام القديم، بما أنتج "الثورة الدامية".
روسو أكد مبدأ الديمقراطية وسيادة الشعب (مواقع التواصل)
الأوروبيون
كان الفيلسوف الألماني المثالي هيغل ثوريا لكنه رفض العنف الثوري والراديكالية، ورأى أن مهمة الفلسفة أن تفهم ما هو موجود، ومع ذلك يرى أن النظام السياسي القائم في عصره لن يصمد أمام الأفكار الجديدة.
وتماشيا مع الفلاسفة الناقدين للظاهرة الغوغائية بالثورة الفرنسية، رأى هيغل أن الثوار المتأثرين بفلسفة روسو أوجدوا حرية سلبية وحطموا مؤسساتهم التي أقاموها بأنفسهم، في المقابل يشدد هيغل على أن "الحرية خارج الدولة ضرب من الوهم".
وفي مقاله "كانت والثورة" اعتبر الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو المتوفى منتصف ثمانينيات القرن الماضي أن الفيلسوف الألماني البوروسي إيمانويل كانت كان مرتبكا أمام الثورة الفرنسية، واقتبس نصا للأخير يقول فيه إن الثوار ما كانوا ليكرروا عملهم بعد أن رأوا النتيجة.
وكان كانت ابن المنهج التنويري متحفظا على الثورة الفرنسية وعلى الغوغائية ورافضا للتمرد على سلطة ذات سيادة وشرعية، واعتبر أن إصلاح العقول أفضل من ثورة تسقط الاستبداد، وهو بذلك يتمسك بالفكر التنويري لكنه يتبنى الخيار الإصلاحي.
وفي كتابه "ميتافيزيقا الأخلاق" يتناول كانت "نظرية القانون" ويقول "أي تغيير للدستور ينبغي أن يكون من طرف الحاكم نفسه وذلك يتم عبر إصلاح، ولا يتم ذلك من طرف الشعب باللجوء إلى الثورة" ويضيف "ليس ثمة أية مقاومة شرعية للشعب ضد المشرع الأسمى للدولة".
هيغل كان ثوريا لكنه رفض العنف الثوري والراديكالية (غيتي)
الثورة والتصوف الإسلامي
في كتابه "الشعر والتصوف والثورة" تناول الناقد والمؤلف المصري حلمي سالم مساحات مشتركة بين التصوف الذي يمثل تيارا فلسفيا رئيسيا بالتراث الإسلامي وبين الثورة، وحصرها في مفاهيم منها الحرية، والتمرد على الجمود، والمساواة، والبعد الاجتماعي.
ويرى سالم أن التصوف يشترك مع الثورة في التأكيد على الحرية التي تمثل جوهر التجربة الصوفية والثورية في آن، وعلى خلاف الفكرة النمطية السائدة عن النزعة الصوفية كظاهرة روحية منفصلة عن الواقع يرى المؤلف أن قيم التصوف تشتبك مع العديد من الأحداث السياسية.
وقد لعب فلاسفة وصوفيون كبار مثل عبد القادر الجيلاني وشهاب الدين السهروردي دورا في الصراع السياسي والاجتماعي، وطالب الجيلاني بإعادة توزيع الثروات لكن السهروردي اتهم بالهرطقة الدينية والتمرد السياسي معا.
المصدر : الجزيرة