الرُّجلُ ذو الشَّعرِ الرَّمَاديِّ
THE GRAY-HAIRD MAN
قصَّة قصيرة
* د. موسى رَحُوم عبَّاس
نعم، أتحدَّثُ إليك، إيه نعم، أنتَ أيُّها الرُّجلُ ذو الشَّعرِ الرَّمادي، لا تستطيعُ أن تتجاهلني، أعرفُ عنك كُلَّ شيء، لدي ذاكرةٌ خبيثةٌ، تحافظ على كلِّ الحرائقِ الصَّغيرةِ والكبيرةِ التي أشعلتَها في الطُّرقِ التي سلكتَها، وتبقيها مُسْتعرةً، ربَّما يمكنُكَ أن تسخرَ منِّي، سأضيفُ هذه إلى كشفِ الحسابِ بيننا! لا تحملقْ بي هكذا! لن تخيفني، ولن تجعلني أتراجَعُ!
هَأنتَ ذا تركضُ حافيًا في دروبِ تلكَ القريةِ التي تجاهلتْهَا الخرائطُ، يلتفُّ العشبُ اليابسُ المُوحِلُ بين أصابعِ قدميك، تلاحقُ الفراشاتِ التي تفرُّ من بين يديك إلى حقول القُطْنِ، ولا يُطْفئُ ظمأكَ إلا الفُراتُ بمياههِ الحمراءِ في فصلِ الفيضانِ وما يحمله من طَمْي يكسو به ضفَّتيه الجزيرة والشَّامية، تحملُ علاماتِ الاستفهامِ بين أصابِعك؛ لتغرسَها بعد كلِّ جُمْلةٍ؛ لتخلقَ غابةً من الأسئلة! رأسُكَ الصَّغيرُ هذا أشبه بطاحون يجرش الأحلام كالبُرْغِلِ، تعلمتَ ألَّا تبوحَ بهواجسك، وأعدَدْتَ نفسَك؛ لتكون مواطنا في مملكة الجحيم.
– ما الذي تحمله في هذه الحقيبة؟
– كتبي ووثائقي الرَّسمية.
– ولِمَ تركتَها نصفَ فارغةٍ؟!
ضحكتَ كثيرا مني، هزئتَ من جهلي، أعرفُ أنَّك قلتَ: ليستْ فارغةً بل مزدحمة بأحزاني التي ادَّخرتُها مثل حسابٍ بنكي من القهرِ، هذه لا تفارقني، وسمٌ على جبيني يشبه ذلك الوسمَ الذي ابتدعه جَدِّي ليميزَ خرافَهُ من قطيعِ أبناءِ عمومتِه اللصوص، وهأنتَ ذا على أرصفةِ الخيبةِ، تحملُ أوزارَك على عاتقيك، تعبرُ شلالا من الحُزْنِ، مَنْ يهتمُّ لأمرك؟! من يُعِيرك دمعةً من عينيه؟! من يدرج اسمك على قائمة المُهمِّين لديه؟! لا أحد، لا أحد، يمكنك أن تُكذِّبَ ما أقولُ، يمكنك شتمي إذا شئتَ، لن يغيِّرَ ذلك من الأمر شيئا.
أيُّها الرَّجلُ ذو الشَّعر الرَّمادي، مُضْحكٌ أمرُكَ، عندما هربتَ من الاعتقال وربما الموت، كان عليك أن تدفن خساراتك في مقبرة تل البيعة شرق مدينتك، وتأتي إلى هذه البلاد الباردة عاريا من ذاكرتك وتاريخك الذي تفوح منه رائحةُ شِواءِ أجسادٍ بشريَّةٍ، عليكَ أن تغتسلَ من أدرانِ أوهامك، تضحك! تسخرُ مِنِّي، بل ربما تكونُ شامتا؟! حسنًا، ولكنك لابدَّ أن تسمعَني.
أتمنى أن أصفعَكَ الآن، أن أُمْسِكَ بأصابعك؛ لأجعلك تتهجى يومياتك حرفا فحرفا، ربما تشطب منها السُّطورَ الزَّائدةَ، تعيدُ كتابةَ سيرتك، تخفضُ سقفَ توقعاتِك من موسمِ الأحلامِ، وتدسُّ بين هذه السُّطورِ مفردة ” لاجئ” ومشتقاتها في باب القهر.
بقي عليك أن تجولَ في شوارع جنيف، لا تنس الابتسامة العريضة، واحرص على الملابس الشفافة التي تبعث على الاطمئنان بأنَّكَ غير مُسلَّحٍ، وغير مُلتحٍ، ولا تُحِطْ خصرك بأيِّ حزامٍ ومن أيِّ نوع، هأنتَ ذا تبتسمُ مرَّةً ثانية، لا أكترثُ لك ولا لابتسامتك، ستعرفُ يومًا قيمةَ ما أقوله لك.
تجاهلتني عندما حذرتك من أن تعرفَ أكثر، كان ذلك في مدرج ابن خلدون بجامعة حلب، وقلتَ لي يومها: ” كلما اتَّسعتِ الرؤيةُ، ضاقت العبارة” وهاهي تضيقُ على رقبتك حتى الاختناق، وتجاهلتني في مقالتك الأولى في صحف بيروت، قلتُ لك: ” حكي القرايا مومثل حكي السرايا” ثم غبت ثلاثة أشهر ضيفًا على إحدى هذه السَّرايا!
أنتَ أيُّها الرُّجلُ ذو الشَّعر الرَّمادي، أعرفُ أنَّكَ تسخرُ مِنِّي، بل تشمتُ بي، لكنني مُصِرٌّ على نبشِ تاريخك المُكتظِّ بالخيباتِ، هيه، هيه، أيُّها الرُّجلُ ذو الشَّعر الرَّمادي الذي أراه بوضوح في المرآة قبالتي، يخرج لسانه لي، وأنا أفعل الشَّيء ذاته!