منذ مدة وأثناء قراءة قصة لأطفالي في الوقت المحدد لها قبل نومهم، توقفنا أمام قصة (الملح أغلى من الذهب) وهي قصة من التراث الشعبي الروسي للكاتب (ألكساندر إفانسيف). والحقيقة أن أطفالي بكل ما يتسم به عقل هذا الجيل من اتقاد أوقفوني قبل أن أبدأ في القراءة لمناقشتي في العنوان وأنه (
كيف من الممكن أن يكون الملح أغلى من الذهب؟!) وهو سؤال منطقي بالفعل أجبتهم عنه باختصار بأن الإنسان يمكنه أن يعيش بالفعل بدون الذهب لكنه لا يمكن أن يعيش أبداً بدون الملح!
القصة بدون تفاصيل هي تنويع لقصة (الملك لير) التي تم تناولها بالفعل بأكثر من شكل وفي أكثر من بلد، وهي تُروَى عن حاكم جمع بناته الثلاث ليختبر مدى حبهن له، وغضب وعزل الفتاة التي أخبرته أنها تحبه أكثر من الملح!
القصة عمل أدبي لطيف كان كافياً لإقناع أطفالي بالاستسلام للنوم، ولكنها كانت دافع قوي لي لأقرأ المزيد عن تاريخ تلك البلورات البيضاء الساحرة التي لا يمكن للحياة أن تستمر بدونها على الإطلاق.
تاريخ الملح في العالم!
من عدة سنين وتحديداً عام 2005 صدر كتاب في الولايات المتحدة يتحدث عن تاريخ الملح في العالم، يحمل عنوان (الملح: تاريخ للعالم)، للكاتب الصحفي (مارك كورلانسكي)، يتناول فيه باهتمام متزايد تاريخ تلك المادة العزيزة على البشرية التي تم استخدامها منذ القدم في الحضارات القديمة في التحنيط وحفظ جثث الموتى، وحتى أن الطبقية منذ القدم كانت تظهر في مصر الفرعونية عن طريق استخدام ملح النطرون باهظ الثمن في تحنيط الأثرياء من القوم، واستخدام الملح العادي الرخيص في تحنيط العامة من الفقراء!
كما أورد في كتابه أن هناك ما يزيد عن مئة استعمال للملح لا يعلم عنه أحد شيء، وأن هناك حوالي 14 ألف طريقة لاستخدامه في الصناعات المختلفة. وأن الجسد البشري لا يستطيع الاستفادة من الأكسجين أو نقل الإشارات العصبية وحتى مجرد تحريك العضلات بدون الملح المعروف علمياً بكلوريد الصوديوم. وقد تُرجم هذا الكتاب في العالم العربي ضمن السلسلة الشهيرة (عالم المعرفة).
كتاب تاريخ الملح في العالم
الملح: قيمة اقتصادية كبيرة
قبل قرون عديدة عاشت حضارة تسمى بالسلت شكلت سكان النمسا والمجر الحاليين، اعتبر هؤلاء الملح سلعة تجارية هامة حتى أن حضارتهم في الأساس كانت قائمة على تجارة الملح ومعامل استخراجه، والطرق المتنوعة لإدخاله في صناعة الطعام.
وبالنسبة للإمبراطورية الرومانية فقد كان الملح أيضاً جزءًا من الاقتصاد الذي قامت عليه الدولة، وقد انتشرت معامل استخراج الملح على ينابيع وسواحل شبه الجزيرة الإيطالية، حتى أن هناك أكثر من 60 ورشة حالية متبقية من أثر الإمبراطورية الرومانية.
وبالنسبة للأمريكيتين فهناك تاريخ طويل من الحروب الممتدة بغرض السيطرة على حيازة الملح، حيث كان هناك اعتقاد سائد بأن من يستحوذ على تجارة الملح واستخلاصه سيتمكن من فرد نفوذه وسلطته بشكل أفضل!
وخلال حرب الاستقلال في أمريكا، رد جورج واشنطن على الحصار البريطاني لبلاده والذي تسبب وقتها في حدوث نقص كبير في إمدادات الملح بتشجيع صناعته والتوسع بها.
أول استخدام للملح في الطعام
في التاريخ اعتُبر الرومان من أكثر شعوب العالم استخداماً للملح في الطعام، حيث اعتادوا على وضع كميات كبيرة من الملح على الأطباق التي تحتوي على مجموعة من الخضروات لتعزيز النكهة الحمضية، ومن هنا جاءت كلمة salad التي اشتُقت في الأصل من كلمة salt أي ملح. ومن المثير أن نعرف أن هناك أنواع و ألوان مختلفة من الملح تستخدم في الطعام مثل الملح الصخري الخشن وملح (الأيا) الأحمر، الذي يعتبر من أغلى أنواع الملح في العالم.
كما استُخدم الملح قديماً في عملية صناعة النبيذ وتعتيقه في الإمبراطورية الرومانية، واعتمدت أغلب شعوب البحر المتوسط على الملح في عمليات حفظ الطعام وتخزينه لاستخدامه في غير مواسمه، ومن هنا ظهرت صناعة المخللات المتنوعة وأنواع مختلفة من اللحوم و الأسماك المحفوظة!
أما في أوروبا فقد بدأ استخدام الملح في الطعام في الشمال حيث بدأ سكان أيرلندا في حفظ الأسماك وصناعة الأسماك المملحة والسردين. وفي فرنسا لجأ الفرنسيون لاستخدام الملح من أجل حفظ الأطعمة السريعة التلف مثل الزبدة وهو ما استمرينا بفعله حتى وقتنا الحالي.
معتقدات قديمة مرتبطة بالملح
منذ القدم اعتقدت أغلب الشعوب والحضارات القديمة في بعض القوى السحرية الغامضة للملح، فقد أعتقد البعض أن الملح له قدرة خاصة على إبعاد الأرواح الشريرة. كما أنه كان أحد الوسائل التي اتبعتها شعوب مثل الإنكا والأزتيك في التقرب من الآلهة.
و في أوروبا يتخوف البعض من إعادة ما تبقى من الملح إلى عبوته مرة أخرى ويكتفون بإلقائه خلف ظهرهم معتقدين أن ذلك كافياً لحمايتهم من سكان العالم السفلي!
كما يُصر أغلب الطهاة على إضافة الملح بقدر ضئيل جداً إلى كل أنواع الحلويات لاعتقادهم بقدرته على إحداث التوازن المثالي بين جميع المكونات. وفي عالمنا العربي تربط الجدات وربات البيوت بين إضافة الملح إلى خليط أي عجين وطرح البركة والخير في الطعام!
كما لا يمكننا أن نهمل ذكر تقليد رش الملح في أركان المنازل وعلى أعتابها وهو أمر لم أفهمه بشكل تام حتى الآن!
وفي تركيا يوجد تقليد خاص في الأعراس حيث اعتادوا على إضافة الملح في قهوة العريس لتحديد تقبله على مشاركة عروسة في كل اللحظات الحلوة والمرة!
حالياً تحول الملح إلى سلعة زهيدة السعر متوفرة بكثرة وفي كل مكان، ولكن هذه الحقيقة لا تنفي أبداً حقيقة أن الحياة لا يمكن أن تستمر بدون وجود الملح الذي يوحد بين كل طبقات البشر كعنصر أساسي وهام لاستمرار الحياة!
ياسمين احمد - أراجيك