أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين بالهجرة وبين لهم أن في يثرب الإيواء والنصرة، وقال صلى الله عليه وسلم: « إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ جَعَلَ لَكُمْ إخْوَانًا وَدَارًا تَأْمَنُونَ بِهَا»، وبعد هذا الإذن الصريح خرج المسلمون مهاجرين أحادًا وجماعات، ولم يجدوا السبيل سهلًا، بل كانوا يجدون قريش تترصد كل من هاجر، فإن استطاعوا منعه منعوه بالقوة أو بالحيلة، ومثال ذلك ما حدث بإثنين من المهاجرين وهما هشام بن العاص الذي منعه المشركون من الهجرة، وحبسوه في مكة وفتنوه في دينه، والثاني عياش بن أبي ربيعة الذي استطاع الهجرة في رفقة عمر بن الخطاب، ولكنه لم يكد يصل إلى المدينة حتى ذهب إليه أبو جهل بن هشام، وأخوه الحارث بن هشام، وكان ابن عمهما وأخاهما لأمهما، واستدرجاه حتى عادا به إلى مكة مقيّدا في الأغلال ووضعوه هو وهشام بن العاص في سجن واحد.
وقد ذكرت كتب السيرة أن عمر بن الخطاب، وعياش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاصي تواعدوا موضعًا يصبحون عنده، ثم يهاجرون إلى المدينة، فاجتمع عمر وعياش وحبس عنهما هشام، ولما قدما عمر وعياش المدينة والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن قد هاجر بعد، بل كان لا يزال بمكة المكرمة، قدم أبو جهل بن هشام وأخوه الحارث بن هشام إلى عياش فقالا له: إن أمك قد نذرت ألا يمس رأسها مشط حتى تراك، ولا تستظل من شمس حتى تراك.
حينئذ قال له عمر بن الخطاب: «يا عياش إنه والله، إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم، فقال عياش: أبر قسم أمي ولي هناك مال فأخذه، قال له عمر: والله إنك لتعلم أني لمن أكثر قريش مالًا، فلك نصف مالي ولا تذهب معهما، فلمَّا أبى ذلك قال عمر: أما إذ فعلت ما فعلت، فخذ ناقتي هذه، فإنها ناقة نجيبة ذلول، فالزم ظهرها، فإن رابك من أمر القوم ريب فانج عليها، فخرج عليها معهما، حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل: يا أخي، والله لقد استغلظت بعيري هذا، أفلا تعقبني على ناقتك هذه. قال: بلي، فأناخ وأناخها ليتحولا عليها، فلما استووا بالأرض عدوا عليه، فأوثقاه رباطًا، ثم دخلا به مكة المكرمة، ففتناه فافتتن.
ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة أنزل الله تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55)} [الزمر: 53 - 55].
ولما نزلت هذه الآيات قال عمر بن الخطاب: فكتبتها بيدي في صحيفة، وبعثت بها إلى هشام ابن العاص، قال فقال هشام: فلما أتتني جعلت أقرؤها بذي طوى[1]أصعد بها فيه وأصوب ولا أفهمها حتى قلت: اللهم فهمنيها، قال: فألقى الله تعالى في قلبي أنها إنما أنزلت فينا وفيما كنا نقول لأنفسنا ويقال فينا، قال: فرجعت إلى بعيري فجلست عليه فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم.
قصة الإسلام
[1] ذو طوى: واد بمكة..
[2] ابن هشام: السيرة النبوية، تحقيق: مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ الشلبي، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، الطبعة الثانية، 1375هـ= 1955م، 1/ 474- 476، والسهيلي: الروض الأنف، تحقبق: عمر عبد السلام السلامي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1421هـ= 2000م، 4/ 111- 115، وأكرم ضياء العمري: السيرة النبوية الصحيحة، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، الطبعة السادسة، 1415هـ= 1994م، 1/ 204- 206، وأبو زهرة: خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، دار الفكر العربي، القاهرة، 1425هـ، 1/ 449، 450.