صاعقة الإسلام.. السلطان بايزيد الأول
هل سمعتم بسلطان رُفضت شهادته من أحد قضاته؟
نعم إنه السلطان «بايزيد الأول» حين وقف أمام القاضي الإمام «شمس الدين فناري» في تواضع شديد فينظر إليه القاضي ثم يقول: “هذا الرجل لا تقبل شهادته، لأنه لا يحضر صلاة الجماعة مع المسلمين في المسجد ومن لا يصلى في جماعة دون عذر شرعي ممكن له أن يكذب في شهادته! نزلت كلمات القاضي على الحاضرين كالصاعقة ومسك الجنود قبضات السيوف وانتظروا إشارة واحدة من السلطان لتطير عنق القاضي في لحظة، لكن أومأ السلطان بايزيد برأسه في تواضع شديد ثم خرج، وفى نفس الوقت أمر ببناء مسجد ملاصق لقصره كي يحضرمع المسلمين صلاة الجماعة.
فتعالوا بنا نقترب لنتعرف على هذا السلطان المتواضع
هو رابع سلاطين الدولة العثمانية، وُلد سنة 761هـ وبُويع له في ميدان الحرب بعد استشهاد أبيه السلطان “مراد الأول” في معركة “قوصوة” –كوسوفو وأصبح سلطانا على ما تحته من البلاد سنة 791هـ، وهو ابن ثلاثون عاماً، هكذا كانت البداية في ميدان الحرب، “بايزيد” صاعقة الإسلام، بلغت الدولة العثمانية في عهده من العزَّة والمجد ما ذَكَّر المسلمين بأيام الصحابة والرسول –صلى الله عليه وسلم-، امتاز عمَّن سبقوه بسرعة الحركة وقوَّة الانقضاض على أعدائه؛ حتى لُقِّب بالصاعقة أو يلدرم باللغة التركية، وكان مجرَّد ذكر اسم يلدرم يُوقع الرعب في نفوس الأوربيين عمومًا، وأهل القسطنطينية خصوصًا.
كان السلطان “بايزيد الأول” محباً للجهاد مُعزاً لدين الله، وكانت منطقة الأناضول هي منطقة الانطلاق لأي سلطان عثماني جديد، ذلك لأن هذه المنطقة منقسمة إلى عدَّة إمارات صغيرة يحكمها أمراء متغلِّبُونَ على رقاب المسلمين فيها، هؤلاء الأمراء كثيراً ما ثاروا على العثمانيين، وسبَّبُوا لهم الكثير من المتاعب، وكانت ثوراتهم المتكرِّرة سببًا في صرف جهود العثمانيين عن حرب أوربا، وهذا ما جعل الأوربيين يلتقطون أنفاسهم، ويُشَكِّلُون تحالفات صليبية متكرِّرة لمحاربة العثمانيين.
ولكن السلطان بايزيد تفرغ أولاً لحرب هؤلاء الأمراء والقضاءعلى ثورات الأناضول، ثم اتَّجه إلى أوربا وبدأ أُولى خطواته هناك، وذلك بإقامة حِلْفٍ ودِّيٍّ مع الصرب، فتزوَّج بايزيد من “أوليفير” أخت الملك “أصطفان” ملك الصرب؛ وبذلك أصبحت صربيا بمنزلة الحاجز القوي بين الدولة العثمانية وإمبراطورية المجر، التي كانت وقتها أقوى الممالك الأوربية، وتُلَقَّبُ بحامية الصليب.
كان بايزيد يهدف من محالفته للصرب إلى التفرُّغ للوسط الأوربي والقسطنطينية، لذلك فقد قام بتوجيه ضربة خاطفة إلى بلغاريا وفتحها سنة (797هـ -1394م)، وأصبحت بلغاريا من وقتها إمارة تابعة للدولة العثمانية، نزل خبر الهزيمة على مسيحيِّي أوربا مثل الصاعقة، وانتظر المسيحيون سقوط الممالك المسيحية واحدة تلو الأخرى في قبضة السلطان بايزيد لذا استعد ملك المجر لملاقاة السلطان بايزيد الأول.
معركة نيكوبوليس
تلك المعركة التي كانت بمثابة جرس الإنذار القوي لكلِّ الأوربيين؛ خاصَّة ملك المجر سيجسموند والبابا بونيفاس التاسع، فاتَّفق عزمُ الرجلين على تكوين حلف صليبي جديد لمواجهة العثمانيين، واجتهد سيجسموند في تضخيم حجم هذا الحلف وتدويله، باشتراك أكبر قدرٍ ممكن من الجنسيات المختلفة، فضمُّ مائة وعشرين ألف مقاتل من مختلَف الجنسيات، مثل: ألمانيا، وفرنسا، وإنجلترا، وأسكتلندا، وسويسرا، وإيطاليا، بقيادة سيجسموند.
تحرَّكت الحملة الصليبية وانحدروا مع نهر الدانوب، حتى وصلوا إلى مدينة نيكوبوليس في شمال البلقان، ولم يَكَدِ الصليبيون يدخلون المدينة حتى ظهر بايزيد ومعه مائة ألف مقاتل، وانتهت المعركة بنصر مبين للمسلمين، ورغم النصر إلا أن المسلمين تكبدوا فيها خسائر في الأرواح قُدِّرَتْ بثلاثين ألف قتيل وتذكَّر السلطان بايزيد ما فعله الصليبيون بالحاميات الإسلامية في بلغاريا والمجر، فأمر بقتل الأسرى كلهم، ،ولم يُبْقِ إلَّا أكابر وعلية القوم وذلك للحصول على فدية ضخمة منهم، وممَّن وقع في الأسر “الكونت دينيفر” أحد أكبر الأمراء في الجيش الصليبي، الذي أقسم ألَّا يعود إلى محاربة المسلمين، وكاد أن يُقَبِّل قدم السلطان، لكنْ كان ردُّ السلطان بايزيد الأول المعتزّ بدينه، أن قال له: «إني أجيز لك ألَّا تحفظ هذا اليمين؛ فأنت في حلٍّ من الرجوع إلى محاربتي وقتما شئتَ». ثم استطرد قائلاً كلمته الشهيرة التي خَلَّدها له التاريخ، وكتبها من حروف من ذهب: «إذ إنه ما من شيء أحبّ إليَّ من محاربة جميع مسيحيِّي أوربا والانتصار عليهم».
وفي نشوة الانتصار أعلن السلطان «أنه سيفتح إيطاليا بإذن الله وسيطعم حصانه الشعير على مذبح كنيسة القديس بطرس في روما، لكن ظهر ما لم يكن في الحسبان».
ظهرت أثناء تلك الفترة قوَّة بشرية ضخمة يقودها رجل من أقسى الناس قلباً هو “تيمور لنك” الرافضي الخبيث الذي يدعى الإسلام ويظهر حبه الشديد لآل بيت، استطاع هذا الرجل أن يؤسس إمبراطورية ضخمة مترامية الأطراف فضم بلاد ما وراء النهر وبلاد الشام والهند وموسكو وأسيا الصغرى. وكان يؤمن أنه طالما يوجد في السماء اله واحد فيجب أن يوجد في الأرض ملك واحد، فكان يحلم بالسيطرة على العالم، واستباح “تيمورلنك” بعض البلاد مثل حلب وبغداد وغيرها، فعمل فيها التخريب والقتل ولم يستطع أحد أن يقوم في وجه هذا الطاغية؛ لعظمة جيوشه وأعداده االضخمة.
و ما فرح ملوك أوروبا بشيء مثل فرحهم بظهور “تيمورلنك” الذى وجدوا فيه خلاصهم الوحيد من السلطان “بايزيد الأول”، فارتحل كثير من أمراء الأناضول الذين طردهم السلطان “بايزيد الأول” إلى خدمة تيمور لنك واحتموا به، وبلغ ذلك إمبراطور بيزنطة وأمراء أوروبا فأرسلوا إلى تيمورلنك يستنجدون به من السلطان بايزيد الأول وأوقدوا العداوة بينهما، وبالفعل طمع تيمورلنك في أملاك الدولة العثمانية وبدأ بالهجوم على أطرافها في آسيا الصغرى، وانضم اليه الأمراء الفارين من “بايزيد الأول”. الأمر الذي أزعج السلطان بايزيد جداً فصمم على ملاقاة هذا الطاغية وقتله.
معركة أنقرة 1402م
احتل تيمور لنك سيواسفي الأناضول وأباد حاميتها هناك التي كان يقودها “أرطغرل” بن السلطان بايزيد، ولم يكتفى بذلك بل أخذ الفرسان وأحنى رؤوسهم بين أرجلهم وألقاهم في خنادق واسعة وردمهم بالتراب. انزعج السلطان وكون جيش يقدر بـ120.000 مقاتل، وكانت قوات تيمورلنك كثيرة جداً حتى أن بعض الروايات تذكر أنها وصلت إلى 800.000 مقاتل. هذا بالإضافة إلى وجود آلاف من التتار في جيش بايزيد الأول، وكان قد أرسل لهم تيمورلنك سراً كتابا يخبرهم بأن ينضموا اليه ويتركوا السلطان بايزيد، وأخبرهم “نحن جنس واحد، وهؤلاء تركمان ندفعهم من بيننا ويكون لكم الروم عوضهم”. فأجابوه أنهم عند اللقاء يكونون معه، وعندما التقى الجيشان انضم الجنود التتر لصفوف تيمورلنك، فكان مصير المعركة محدد سلفاً، الهزيمة لأول مرة، ووقوع السلطان بالأسر.
نعم وقع السلطان بايزيد الأول في الأسر عند تيمورلنك، واختلفت الروايات في كيفية معاملة تيمورلنك للسلطان المجاهد بايزيد الأول، فمنهم من قال أنه أهانه ووضعه في قفص وأخذ يطوف به البلاد، ومنهم من يقول أنه أكرمه، ولا ندري حقيقة كيف عُومل السلطان المجاهد، لكن مع ما ثبت في كتب التاريخ ما فعله تيمورلنك عند وفاة السلطان بايزيد الأول يدلنا على أن تيمورلنك أحسن معاملة السلطان بايزيد في أسره. بعد أسر السلطان استباح تيمورلنك أملاك الدولة العثمانية لجنوده فخربوها وهدموا أكثر منشآتها.
مات السلطان بايزيد بعد ثمانية شهور كمداً في أسره، لم يتحمل الذل والهوان والأسر، ولم لا! وهو السلطان المجاهد العظيم الذي تعود على النصر، ولم يركن إلى الراحة يوماً وظل في جهاد دام أكثر من 14 عاماً، ووصلت جيوشه أماكن لم ترفع فيها راية للمسلمين من قبل، ورفع الآذان في عهده في القسطنطينية التي كادت أن تفتح على يديه، لكن أبى الله إلا أن يخلد ذكر الصاعقة بايزيد الأول، ويأتي من نسله أبطال عظماء مثل “محمدالثاني” صاحب البشارة وفاتح القسطنطينية، فهو محمد الفاتح بن مراد الثاني بن محمد جلبى بن السلطان بايزيد الأول.
مات السلطان بايزيد الأول عن عمر 44 عاماً، فرحم الله السلطان المجاهد..