7 من العظماء الذين صنعوا تاريخ الأندلس
تعد الأندلس واحدة من أكثر الصفحات المشرقة في تاريخنا الإسلامي، إن لم نقل أكثرها إشراقا وضياء، فهذه البلاد التي يمتد تاريخها عبر ما يزيد عن ثمانية قرون؛ صارت خير مثال شاهد على حضارة المسلمين العريقة ورقيها، فبداية تاريخ الأندلس كان نتيجة انطلاق الإسلام وتوسعه وفتوحاته، ونهاية هذا التاريخ أعتبر إيذانا بتراجع الحضارة الإسلامية وبداية ركود المسلمين، وما كانت الأندلس لتمتد كل هذا الزمن وتشمل هذا الكم من الصفحات في أغوار التاريخ وكنوزه الحضارية؛ لو لم يكن هناك رجال عظماء سطروا تاريخها بجهودهم الكبيرة وإنجازاتهم الفذة وحافظوا على حضارتها وعز إسلامها.
طارق بن زياد وموسى بن نصير
بعد إتمام فتح بلاد المغرب على يد موسى بن نصير؛ كان المسلمون يتطلعون نحو شبه جزيرة ايبيريا بعد أن قرر موسى فتحها بموافقة الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك، وذلك في أواخر القرن الأول الهجري حيث انطلقت أولى السرايا الجهادية نحو الأندلس بقيادة طارق بن زياد، الذي انتدبه ابن النصير للغزو فتمكن المسلمون من التوغل في البلاد بعد الانتصار على حكامها القوط في معركة وادي برباط الفاصلة عام 92ه، وتم بذلك اكتساح الجنوب الأندلسي وفتح المدن والاستيلاء على القلاع، وبعد مدة تمكن طارق من فتح العاصمة طليطلة، وفتحت له أبواب شمالي البلاد لاستكمال الجهاد والغزو.
ثم تبعه موسى -الذي كان واليا على المغرب-مباشرة ليعيد فتح الجنوب والسيطرة عليه، فسار كل منهما في خطه لنشر الإسلام وإزالة ظلم القوط للأهالي، وفي حدود 95ه استطاع البطلان استتباب الأمر في الأندلس واعلانه خاضعا للخلافة الإسلامية في دمشق، فبدأت بالتالي حكاية الاندلس المجيدة منذ هذا التاريخ.
اقرأ أيضًا: طارق بن زياد و موسى بن نصير
السمح بن مالك الخولاني وعبد الرحمن الغافقي
استقر الإسلام بالأندلس وبدأ عصر الولاة بقرطبة، والذين تعينهم الدولة الاموية بالشام، وكان من أفضلهم وأشهرهم السمح بن مالك الخولاني الذي عينه الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز، ثم عبد الرحمن الغافقي القائد الكبير والأمير الشجاع، وعرفا بجهادهما واستشهادهما في فرنسا بعد توسع الفتح الإسلامي وعبر جبال البرانس.
فكان السمح هو الوالي الرابع للبلاد الأندلسية، فأظهر كفاءته وحسن تدبيره في إدارته للولاية حيث شهد هذا القطر انطلاقة حضارية فكان من أثاره قنطرة قرطبة المشهورة، التي بناها بعد استشارته للخليفة عمر عام 101ه، كما أن من خيرة أعماله جهاده في سبيل الله، حيث غزى جنوب بلاد الفرنجة وهزم النصارى في معارك كثيرة واستشهد في يوم التروية سنة 102ه.
تولى أمر الأندلس بعد الخولاني نائبه عبد الرحمن الغافقي، المعروف بجهاده وشجاعته ولم يبقى في الولاية سوى شهرين، ثم عاد إليها عام 112ه وجمع المسلمين وتوجه بهم نحو فرنسا فتمكن من غزو قرابة نصفها، فاستنفرت أوروبا قواها ومن ورائها البابا، فتحرك الصليبيون لوقف الزحف الإسلامي في معركة بلاط الشهداء الكبرى سنة 114ه، التي انكسر فيها المسلمون واستشهد أميرهم عبد الرحمن الغافقي بعد صمود واستبسال طويل، فكان هذا توقفا للفتوح الإسلامية وانحصر بعد ذلك حكم المسلمين في أقصى الجنوب الفرنسي، ليتراجع بعد مدة وجيزة نحو شبه الجزيرة الأندلسية.
عبد الرحمن الداخل (صقر قريش)
تزعزعت الدولة الاموية في المشرق على إثر الاضطرابات التي عاشتها الأقطار الإسلامية في أواخر عمر الدولة، فكانت الأندلس بدورها تعج بالقلاقل نتيجة الانقسامات العصبية والقومية وكذلك حركات الخوارج، فكاد الأمر أن ينفلت من يد المسلمين لولا أن ظهر عبد الرحمن الداخل وأنقذ الأندلس بعد هروبه من بطش العباسيين في الشام، الذين تمكنوا من القضاء على حكم بنو أمية وتصفية أمرائهم.
لقب عبد الرحمن بن معاوية بالداخل لدخوله قرطبة بعد فرار طويل عانى فيه كثيرا من المِحن، حيث هرب إلى بلاد المغرب ثم استطاع الاستيلاء على الأندلس وحكمها بعد مواجهات مع المنافسين والطامعين في السلطة عام 138ه، ليكون بذلك قد وحد البلاد وجمع المسلمين على كلمة واحدة بعد أن كادت الأمور أن تتخذ مجرى أخر، وبعزيمته وقوة ارادته وصلابته؛ استطاع إطفاء خمسة وعشرين ثورة قامت ضده في مدة حكمه ذات الثلاثين عاما، كما صد جيوش الفرنجة وامبراطورهم شارلمان في الشمال الشرقي للأندلس، ليتم بالتالي إعادة وحدة الأندلس الإسلامية لكن بانفصالها عن دولة الخلافة في المشرق، ليبدأ عصر الدولة الاموية في الأندلس حيث الانبعاث الحضاري الكبير.
عبد الرحمن الناصر
خلف عبد الرحمن الداخل بعد وفاته إمارة قوية حكمها من بعده أمراء أمويين بارزون؛ كالحكم بن هشام وعبد الرحمن الأوسط، واستمر هذا التقليد على إمارة الأندلس إلى غاية وصول عبد الرحمن الثالث (الملقب بالناصر) الى الحكم، وتحويله إلى خلافة فبدأ عصر الخلافة الاموية بقرطبة.
تقلد عبد الرحمن الناصر حكم الأندلس عام 300ه، والبلاد في حالة انعدام الوحدة والاستقرار السياسي، فعمل على اخضاع المتمردين والجهاد ضد النصارى، كما تصدى لمناوشات العبيديين (الفاطميين) بالسواحل الجنوبية القادمة من المغرب، فألقى على عاتقه مهمة جمع شمل وحدة الأندلس وقضى على ثورة ابن حفصون –المتنصر-، ثم توجه شمالا لردع النصارى والممالك الصليبية: ليون ونفار، فقام بتوطيد ملك قوي شمل الأراضي الإسلامية الاندلسية بهمته وقوة ارادته، فأعلن بالتالي الخلافة عام 314ه بعد أن رأى ضعف الخلافة العباسية في المشرق، واستئثار العبيديين بالشمال الافريقي وتنصيب أنفسهم خلفاء، ليصير الناصر خليفة الأندلس بعد أن تسمى كل من قبله بلقب الأمير فقط.
برزت الحضارة الاندلسية بشكل كبير في عهد الناصر، حيث تميزت فترته بنهضة عمرانية واسعة، وقد عرف عن عبد الرحمن حبه للعلم والمعارف واهتمامه البالغ بالعمران مع التقوى والخشوع لله، فكانت قرطبة في عصره مركزا للعلم ومقصدا للعلماء والادباء حتى باتت تنافس بغداد حاضرة الشرق، وتوفي سنة 350ه بعد خمسين عاما من الحكم القوي والذي أسس للأندلس حضارة مزدهرة.
الحاجب المنصور
بعد وفاة الناصر تولى ابنه المنتصر أمور البلاد، وسار على نهج أبيه من تنظيم دولته وردع الاخطار الخارجية فمات عام 366ه، وخلفه ابنه هشام الصغير الذي لم يقدر على الحكم فتحكم الاوصياء والاعيان بأمور الدولة، وكان من بينهم الحاجب محمد بن أبي عامر الذي ما لبت أن استبد بالحكم وصار الحاكم الفعلي لبلاد الأندلس سنة 368هـ.
حجب ابن أبي عامر عن الخليفة الصغير هشام وأمسك بمقاليد الملك بعد أن تخلص من منافسيه، لكنه كان خيرا للبلاد والعباد إذ أخد الأمور بعزم كبير وغزى النصارى وقضى على الفتن الداخلية، كما أنه قمع محاولات العبيديين بشمال المغرب الأقصى واستتب نفوذه هناك. لكن ما اشتهر به كثيرا الحاجب المنصور هو جهاده المتواصل ضد الصليبيين والممالك النصرانية من جليقية وليون، حيث فتح هذه الأخيرة عام 373ه واستولى على برشلونة وضيق بذلك الخناق على امارات النصارى في أقصى الشمال الاندلسي، حيث عرف بمهارته العسكرية الفذة وأساليب حصاره البرية والبحرية، ورويت عنه قصص بطولية تؤكد حرصه على المسلمين وأسراهم، وحبه للجهاد حتى إنه كان يجمع غبار المعارك في قارورة معه، وتوفي وهو يجاهد في سبيل الله عام 392ه.
بعد وفاة الحاجب المنصور بدأت بوادر الفتن والاضطرابات تظهر على ساحة الأندلس وذلك بالتحديد بعد تولي ابنه عبد الرحمن (شنجول) الذي سبب الصراع بين المسلمين، فانقسمت صفوفهم وانهارت بالتالي الخلافة الأموية عام 422ه، ومرت البلاد بفوضى وانقسامات عقودا طويلة من القرن الخامس الهجري، فتمزقت الأندلس إلى دويلات عديدة حكمها ما عرف بملوك الطوائف المتنازعين باستمرار والمتواطئين مع العدو الصليبي على بعظهم البعض، وانعدمت –مع كل ذلك- محاولات فعلية لتوحيد المسلمين الاندلسيين، ليأتي الدور على رجال عظام قدموا من المغرب ونصروا الإسلام في الأندلس.