يوسف بن تاشفين: الأمير الراشد والقائد المجاهد

لعل أكثر ما يميز التاريخ السياسي للإسلام هو ظهور دول في فترات لاحقة، استطاعت أن تتبوأ مكانة كبيرة وتحقق نجاحا باهرا، ومن نماذج هذه الدول: دولة المرابطين في المغرب والأندلس، والتي قامت في منتصف القرن الخامس الهجري، ودامت قرابة تسعين عاما، وقد ارتبطت هذه الدولة مع شخصية تاريخية؛ هي يوسف بن تاشفين الذي أُعتُبِر مؤسسا لدولة المرابطين، وأحد القادة العظام والأمراء الكبار في التاريخ الإسلامي، وسيرته التاريخية وتجربته السياسية والعسكرية، كان لها أثر كبير في تاريخ وحضارة الغرب الإسلامي.
النشأة الإيمانية في الرباط والجهاد
لا تذكر المصادر التاريخية ليوسف بن تاشفين نشأته الأولى وشبابه، وكل ما يتداوله المؤرخون هو ولادته في سنة 400ه، في الشطر الغربي من الصحراء الكبرى وبلاد شنقيط (موريتانيا حاليا)، وفي قبيلته لمتونة إحدى قبائل صنهاجة الأمازيغية، تم التحاقه بدعوة الشيخ عبد الله بن ياسين مؤسس الحركة المرابطية، (والتي ستتحول إلى دولة على يد يوسف هذا)، في رباطه على نهر النيجر، وكان على إيمان كبير وصار أحد “المرابطين” أتباع عبد الله بن ياسين الزعيم الروحي للحركة العسكرية والدعوية للمرابطين، والتي كان أغلب رجالها من القبائل الصنهاجية وعلى رأسها لمتونة، التي كان يقودها يحيى بن عمر ثم أخيه أبي بكر.
من قيادة الجيش إلى حكم الدولة
كان ابن تاشفين كغيره من اللمتونيين الصنهاجيين المتخرجين من رباط ومدرسة عبد الله بن ياسين، الذي جمع القبائل الصحراوية على الإسلام الصحيح، وتوجه بها ناحية الشمال نحو المغرب الأقصى، وقد كان يوسف على رأس الجيش المرابطي بتعيين من ابن عمه أبي بكر بن عمر، ففتح مدينة سجلماسة ثم اكتسح المرابطون منطقة السوس وواجهوا إمارة بورغواطة (أحد أكبر الكيانات المارقة) وقضوا عليها، فكان ثمن ذلك هو استشهاد شيخهم عبد الله بن ياسين.
وقد بدأت في هذه الفترة، أي منذ 448ه، وهي سنة دخول المرابطين إلى المغرب الأقصى، تبرز ملامح الدولة المرابطية مع أول أمراؤها أبي بكر، لكن ما إن أمسك هذا الأمير زمام القيادة العامة –بوفاة ابن ياسين-حتى قام صراع بين قبائل صنهاجة في موطنهم بالصحراء، ولم يكن في يد أبو بكر سوى خيار الرجوع واخماد الفتنة بين القبائل التي تشكل عمود الدولة الفتية، وبذلك ولى يوسف أمور المغرب وذهب هو إلى الصحراء، ومن هنا بدأ يوسف في الإمساك بمقاليد الحكم وصار نحو توسيع رقعته.

بناء مدينة مراكش والسيطرة على المغرب
شرع يوسف ين تاشفين في بناء عاصمة جديدة لدولته عام 454ه، فكانت مراكش التي تقع في وسط المغرب الأقصى، وذلك في الوقت التي تنطلق فيه جيوشه نحو ضم باقي المناطق في البلاد، فقضى على الإمارات والقبائل الزناتية التي كانت تسيطر على كثير من المناطق في المغرب، فدخل مدينة فاس–الحاضرة الإسلامية بالمغرب الأقصى-بعد حصار طويل ومعارك كر وفر مع حكامها المغراويون من زناتة.
تم توسع ناحية الشرق فضم الجزء الغربي من المغرب الأوسط، فوصلت قواته إلى حدود مدينة الجزائر الحالية، تم إلى ناحية الشمال حيث استولى على منطقة الريف وغمارة وتمكن من تحرير مدينتي سبتة وطنجة، وبذلك تمكن من السيطرة على مساحة شاسعة من بلاد المغرب وذلك إلى غاية عام 477هـ.
وقد وقعت حادثة مهمة في هذه الفترة كانت نقطة مضيئة عند المرابطين، وهي عودة الأمير أبي بكر بن عمر من الصحراء بعد أن عالج الأزمة بين القبائل هناك، وذلك في الوقت الذي كان فيه ابن تاشفين يستتب أمره في المغرب، وبعد لقاء بين الأميرين تنازل أبو بكر عن أحقيته في الحكم لابن عمه يوسف؛ بعد أن رأى قدراته القيادية الرشيدة في مشهد عجيب قل نظيره في التاريخ، فعاد أبي بكر إلى الصحراء ليستكمل مهمته في نشر الإسلام ومد النفوذ المرابطي (وقد توفي سنة 480 بعد أن تمكن من نشر الإسلام في ربوع إفريقيا الغربية).
أما عن يوسف فقد واصل تنظيم دولته في المغرب، وقد وصل إلى مسامع أهل بلاد الأندلس، التي كانت تعاني من فتنة ملوك الطوائف والزحف النصراني الخطير على ديار الإسلام، بطولات المرابطين فاستنجدوا بيوسف مما تعانيه البلاد، فاستعد للجهاد ملبيا طلب إخوانه فكانت الأندلس هي محطته التاريخية الثانية.
التوجه نحو الأندلس
أتم يوسف بن تاشفين استعداداته لنجدة المسلمين في الأندلس، الذين اضطربوا بعد سقوط طليطلة في يد القشتاليين عام 478هـ، فقام العلماء وبعض ملوك الطوائف بالاستنجاد بالمرابطين لما رأوا التهديد النصراني لحكمهم، فعبر ابن تاشفين سنة 479هـ وحشد جيشه مع بعض قوات الأندلسيين فتواجهوا مع الجيوش الصليبية المتكتلة في معركة الزلاقة الفاصلة، والتي انتهت بانتصار ظافر للمسلمين وقائدهم يوسف، لكنه لم يستمتع كثيرا بنصره، إذ سرعان ما رجع إلى المغرب، بعد أن ألح عليه ملوك الطوائف الخائفين على عروشهم.

لكن المسيحيين وعلى رأسهم ملك قشتالة ألفونسو السادس الذي ما لبث يستعد للثأر، فبنى حصن يدعى “لييط” في شرق الأندلس وأخد يشن منه غارات على المناطق الإسلامية، وهذا ما جعل أهل الأندلس يستغيثون من جديد بالمرابطين فاستجاب الأمير يوسف للنداء مجددا فعبر عبوره الثاني عام 481هـ، فحاصر الحصن لكنه فوجئ هذه المرة بخيانة ملوك الطوائف الفاضحة وخصوماتهم، بعدما رفضوا مساعدته، وهذا ما جعله يفك الحصار عن الحصن ويرجع إلى المغرب ويبدأ في التفكير في إنهاء دويلات الطوائف بعد أن لمس حقيقة ملوكها.
سار يوسف بن تاشفين إلى حسم مسألة ملوك الطوائف بصفتهم المصيبة الكبرى في الأندلس، بعد أن استفتى علماء المغرب وكذلك علماء المشرق حيث تلقى فتاوى من الغزالي والطرطوشي أعطت له جوازاً لخلع أمراء الأندلس، فقام بعبوره الثالث عام 483هـ، فأرسل قادته إلى المدن الإسلامية في الأندلس فحاصرتها جيوش المرابطين وفتحتها، ونفي ملوكها إلى جهات متفرقة في بلاد المغرب فكان على رأسهم المعتمد بن عباد (حاكم إشبيلية وقرطبة) الذي أسر واقتاد إلى مدينة أغمات قرب مراكش، فانضمت بالتالي الأندلس إلى حكم المرابطين بعد عمليات تصفية ملوك الطوائف، فتم بالتالي توحيد جبهة الأندلس وصد التوسعات النصرانية.
لقب أمير المسلمين والارتباط مع الخلافة العباسية
وبدخول الأندلس تحت حكم يوسف بن تاشفين صارت دولة المرابطين من أكبر دول العالم الإسلامي، وقد اتخذ يوسف بن تاشفين لقب “أمير المسلمين” غداة انتصاره في معركة الزلاقة، وكان قد رفض لقب أمير المؤمنين الذي يخص آنذاك الخليفة العباسي احتراما له، فكان بالتالي أول من تسمى بأمير المسلمين بعد أن كان عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) أول من لقب بأمير المؤمنين.
وقد أعلن ابن تاشفين دولة المرابطين تابعة بشكل اسمي للخلافة العباسية في بغداد، وإن كانت هذه الأخيرة تمر بمرحلة من الضعف المتواصل، بينما الدولة المرابطية في أوج قوتها، ولم يأخذ يوسف بهذا الأمر في عين الاعتبار، بل ضرب السكة ورفع الدعاء باسم الخلفاء العباسيين في أنحاء دولته، وذلك حرصا منه على الوحدة الإسلامية وأخوة الأمة.
سيرة أمير راشد
إن المتأمل في سيرة يوسف بن تاشفين؛ يجدها سيرة رجل واظب على الجهاد ونصرة الإسلام، بداية في المغرب الذي مزقته النعرات القبلية والمِلل المارقة، ثم الأندلس حيث فترة ملوك الطوائف والمد الصليبي الجارف، فبنى مراكش ووحد أقصى الغرب الإسلامي، وقد ازدهرت الحضارة الإسلامية في العهد المرابطي، حيث انتعشت الحركة العلمية والأدبية والفكرية في المغرب الأقصى والأندلس، حيث كان مجلس الأمير المرابطي يعج بالعلماء والفقهاء.
وبالرغم من كونه حاكما لدولة شاسعة؛ إلا أنه لم يتمسك بمظاهر البلاط الباذخ، بل كان على العكس من ذلك، فقد كان قصره بسيط المظهر وكان بنفسه شخصا زاهدا وورعا، وقد أجمعت على هذا كتب التاريخ والمناقب، وهذا ما جعل قيام بعض المفكرين والباحثين بإدراج يوسف بن تاشفين في قائمة “الخلفاء الراشدين” والقادة العظام في التاريخ الإسلامي.
ولعل أعظم ما قدمه يوسف بن تاشفين هو تأسيسه لدولة حافظت على الإسلام في المغرب ودافعت عنه بكل جيوشها في الأندلس، إضافة إلى نقطة مضيئة تعد من المميزات النادرة للدولة المرابطية في التاريخ، وهي أن يوسف بن تاشفين الذي توفي (رحمه الله) سنة 500هـ، قد أورث لسلالته نظاما سياسيا لم يشهد أحقادا ونزاعا، بين أبناء البيت الواحد، حيث أن الأمراء المرابطين لم يتصارعوا على الحكم إطلاقا طيلة عمر الدولة.