عبد الله بن ياسين الفقيه: مؤسس دولة المرابطين

لطالما حظيت أمتنا برجال أفذاذ حملوا على عاتقهم همّ التغيير في المجتمعات -تغيير يشمل مناحي الحياة المتعددة- تغيير جذري تتمثل فيه سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، حيث كان تغييره للواقع شموليًا بدأ بالعقائد وانتهى بإماطة الأذى عن الطريق، تمثلت مقاربة المصطفى عليه الصلاة والسلام بالمفاصلة الشاملة مع الواقع قصد تغييره لا معايشته -فضلًا عن الدخول تحت نظامه-، وعلى هذا سار أصحابه الكرام يفتحون البلاد ويعبّدون العباد لربّ العالمين.
ما دخلوا أرضًا إلا وغيروا نظم الناس لتتوافق مع النظام الإسلامي، فأنار الله بهم القلوب والبلاد، وأنشأوا حضارة سارت بذكرها الركبان، ووازنوا بين العلم والوحي بلا تضاد أو انفصام.
بداية الانحدار
ثم تعاقبت السنون وجرت سنة الله على خلقه حال حيادهم عن الطريق وتنكبهم عن الصراط. فأتت على أمة الإسلام وفي أغلب الأمصار سنون من الجهل والابتداع، تسلط للصليب وكل حاقد ونذل على ديار المسلمين، وإذلال من حكام خونة عملاء، وفقر وانحطاط عمّ البلاد وغالب الأرجاء.
عين على التاريخ
نحن الآن في القرن الرابع الهجري حيث الأندلس الغراء تئن من وطأة ملوك الطوائف الأنذال، المائعين بكل فسق وانحلال، والخائضين لكل جور وإذلال، وهم بعدُ في خيانة لله والأمة بالتآمر على بعضهم البعض باستنصار الكفار.
ننزل جنوبًا لنعبر العدوة فنصل للمغرب الأقصى، حيث اندثار لحكم الأدارسة وبني أمية وتفرق الديار، جهل وشبه ارتداد عن معالم الدين وفشو البدع وتفرق القبائل وشدة التناحر وكفر الإعراض -قبائل نكثت عهد الله ورسوله وعهد الأئمة النجباء-، فاخترعت لنفسها دينًا وكثر فيها الأدعياء، الدولة البرغواطية نموذجًا!
أول الغيث

لكن الله تعالى برحمته وحسن عنايته أبى أن يترك عباده وبلاد رويت بطاهر الدماء أن تتردى في مهاوي الضلال فتصير إلى الانحدار والانسحاق، ولقد صحّ عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها”، فكان أن قيّض الله للغرب الإسلامي من يجدد لهم أمر دينهم كله بل زاد -أي المجدد- بأن حفظ هذا الدين عبر إنشاء دولة من نواة صلبة مرابطية -نسبة لرباط أقامه سيأتي بيانه إن شاء الله- تحمي الدين وتجعله حيًا في معاش الناس فتُحقق مراد الله من دينه بأن يُعَبَّد الناس لرب العالمين.
فأقاموا الدين وجاهدوا في الله حق جهاده، ونشروا السنة وأماتوا البدعة وأنشأوا حضارة جمعت بين العلوم والاستهداء بالوحي. هذه الآثار التي ذكرنا نتفًا منها لم تكن لتحصل لولا فضل الله أولًا، ثم جهاد الإمام المجاهد عبد الله بن ياسين.
نعم هذا الإمام الذي لم يُعط حقه في الإشادة والكتابة عنه حتى من المغاربة أنفسهم!، هذا الإمام الذي لم يكتف بالنصح في زاوية من المسجد.. بل خرج مجاهدًا بنفسه وماله.
مرحلة الإعداد
فأقام الرباط وجمع حوله ثلة من نزاع القبائل فهذّبهم وجعل منهم أناسًا قادرين على تحمل أعباء الدعوة، لقد بلغ فقه ابن ياسين مبلغًا كبيرًا، حيث جعل من حركته ذات بعد رسالي، فلم يجنح لتربية أناس على أوراد معينة تجعلهم خاملين، بل حضّهم على دعوة القبائل فكان يرسلهم للقبائل داعيين إلى دعوة الحق ونبذ فعل الجاهلية.
ابن ياسين: القدوة لمن بعده
كانت دعوة الإمام إصلاحية شبيهة بتلك التي أسسها بعده بقرون الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب في جزيرة العرب.
وأوجه التشابه كبيرة أبرزها التحام القلم والسيف؛ ليصنع دولة تحمي الكتاب الهادي، لقد نظر ابن ياسين في البلاد فرأى أنه من العبث إنشاء زاوية تركن للذّكر المخدّر!، كيف يفعل والأندلس تكاد تسقط في يد النصارى، وبلاد المغرب عمها الجهل والبدع والخرافة.
التحرك الفعلي بالبدء بالدعوة

فكان أول ما فعله الإمام انحيازه بثلة من الشباب إلى مكان في أقصى شنقيط فأسماه الرباط. اتجه الشيخ عبد الله بن ياسين صَوْب الصحراء الكبرى، مخترقًا جنوب الجزائر وشمال موريتانيا حتى وصل إلى الجنوب منها، حيث قبيلة جُدَالة، وحيث الأرض المجدِبة والحرُّ الشديد، وفي أناة شديدة، وبعدما هالَه أمر الناس في ارتكاب المنكرات أمام بعضهم البعض، ولا يُنْكِر عليهم مُنْكِر، بدأ يُعَلِّم الناسَ؛ يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، وكان الناس في جهل مطبق يصفه القاضي عياض -رحمه الله- بقوله: “كان الدين عندهم قليلاً، وأكثرهم جاهلية، ليس عند أكثرهم غير الشهادتين، ولا يعرف من وظائف الإسلام سواهما” [3].
“صنع عبد الله بن ياسين خيمة بسيطة، وكان من الطبيعي أن يكون في جُدَالة بعض الناس -وخاصَّة من الشباب- الذين تحرَّكت قلوبهم وفطرتهم السويَّة لهذا الدين، فحين علموا خبر شيخهم في مقرِّه البعيد هذا، نزلوا إليه من جنوب موريتانيا ولم يتجاوز عددهم في بادئ الأمر سبعة نفر من جدالة، على رأسهم الأمير يحيى بن إبراهيم الجدالي[9]، الذي ترك قومه ومكانته فيهم ونزل مع الفقيه، وتضيف بعض المصادر أن معهم اثنين من كبار قبيلة لمتونة؛ هم: يحيى بن عمر وأخوه أبو بكر[10].
وفي خيمته وبصبر وأناة شديدين أخذ الشيخ عبد الله بن ياسين يعلمهم الإسلام كما أنزله الله على نبيه محمد رسول الله، وكيف أن الإسلام نظام شامل متكامل، ينظم كل أمور الحياة”.
ابن ياسين مربيًا
يروي ابن أبي زرع فيصف هذه المرحلة من حياة المرابطين بقوله: “فدخلاها -الجزيرة- ودخل معهما سبعة نفر من جدالة، فابتنيا بها رابطة، وأقام بها مع أصحابه يعبدون الله تعالى مدة ثلاثة أشهر، فتسامع الناس بأخبارهم، وأنهم يطلبون الجنة والنجاة من النار، فكثر الوارد عليهم والتوابون، فأخذ عبد الله بن ياسين يُقرئهم القرآن، ويستميلهم إلى الآخرة، ويُرَغِّبهم في ثواب الله تعالى، ويُحَذِّرهم أليم عذابه، حتى تمكَّن حُبُّه منهم في قلوبهم، فلم تمر عليهم أيام حتى اجتمع له من تلاميذه نحو ألف رجل من أشراف صنهاجة، فسماهم المرابطين للزومهم رابطته، وأخذ هو يُعَلِّمهم الكتاب والسنة والوضوء والصلاة والزكاة، وما فرض الله عليهم من ذلك، فلما تفقهوا في ذلك وكثروا قام فيهم خطيبًا، فوعظهم وشَوَّقهم إلى الجنة، وخَوَّفهم من النار، وأمرهم بتقوى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأخبرهم بما في ذلك من ثواب الله تعالى وعظيم الأجر، ثم دعاهم إلى جهاد مَنْ خالفهم من قبائل صنهاجة،
وقال لهم: “يا معشر المرابطين؛ إنكم جمع كثير، وأنتم وجوه قبائلكم ورؤساء عشائركم، وقد أصلحكم الله تعالى وهداكم إلى صراطه المستقيم، فوجب عليكم أن تشكروا نعمته عليكم، وتأمروا بالمعروف، وتنهوا عن المنكر، وتجاهدوا في سبيل الله حقَّ جهاده”.
فقالوا: “أيها الشيخ المبارك؛ مُرْنَا بما شئت تجدنا سامعين مطيعين، ولو أمرتنا بقتل آبائنا لفعلنا”.
فقال لهم: “اخرجوا على بركة الله، وأنذروا قومكم، وخَوِّفُوهم عقاب الله، وأبلغوهم حجته، فإن تابوا ورجعوا إلى الحقِّ وأقلعوا عمَّا هم عليه فخلوا سبيلهم، وإن أَبَوْا من ذلك وتمادوا في غيهم ولجُّوا في طغيانهم، استعنّا بالله تعالى عليهم، وجاهدناهم حتى يحكم الله بيننا، وهو خير الحاكمين”.
فسار كل رجل منهم إلى قومه وعشيرته، فوعظهم وأنذرهم ودعاهم إلى الإقلاع عمَّا هم بسبيله، فلم يكن منهم من يقبل ولا يرجع، فخرج إليهم عبد الله بن ياسين، فجمع أشياخ القبائل ورؤساءهم وقرأ عليهم حجة الله، ودعاهم إلى التوبة، وخَوَّفهم عقاب الله، فأقام يُحَذِّرهم سبعة أيام وهم في كل ذلك لا يلتفتون إلى قوله، ولا يزدادون إلا فسادًا، فلما يئس منهم قال لأصحابه: “قد أبلغنا الحجة وأنذرنا، وقد وجب علينا الآن جهادهم، فاغزوهم على بركة الله تعالى” [11].
ملامح من أثاره
لقد ظهر لك أيها القارئ الكريم ما كان عليه المغرب وبلاد الأندلس من بعد عن الدين وتسلط للكافرين.. فما كان منه سبحانه وتعالى إلا أن جدّد دينه بانبعاث حركة عبد الله بن ياسين، فدعا إلى الله وأنشأ الرباط وجمع حوله الأصفياء، وأرسل الدعاة وانتخب منهم أهل شورى وأعيان، فنظمهم بعد فوضى وجمعهم بعد شتات، فكان أن انتظمت له الكتائب المرابطية توحِّد البلاد وتؤاخي بين العباد، فأنشأ تقبله الله دولة من عدم حفظت الدين وكانت شعلة مضيئة في تاريخ العدوتين -المغرب والأندلس- فأثمر جهاده وتضحياته دولة وشباب حملوا الراية من بعده ووحدوا بلاد المغرب وبنوا مدينة صارت من منارات ديار الإسلام -مراكش العلم والنماء- وبنوا المدارس وأنشأوا الجسور وأغاثوا الملهوف ومن ذلك إعانتهم لأهل الإسلام في عدوة الأندلس لمّا كاد الإسبان أن يطوقوهم، فأنجدهم تلميذ ابن ياسين ونجيبه -أمير المسلمين يوسف ابن تاشفين– فسيّر الجمال قسرًا فعدى بها غمار البحر حتى نزل بالعدوة الأندلسية، وخاض معركة هي من خوالد معارك الإسلام ومفصلية كالقادسية واليرموك، فنصره الله على عدوه وشفى به صدور المؤمنين وسُمّيت المعركة على موضع جرت فيها يقال له “الزلاقة”
فأخّر سقوط الأندلس نحو أربعمئة عام..! فأي فضل هذا الذي حازه ابن ياسين! نعم ابن ياسين فلولا الله ثم ابن ياسين لم يكن ليكون ابن تاشفين على تلكم الحال.
ماذا نستفيد من سيرته
أولًا على المستوى الشخصي كان رحمه الله سخيًا زاهدًا عفيف النفس وقورًا مهابًا، وعلى المستوى العلمي كان تقبله الله فقيهًا مفسرًا مالكيًا أصلًا وفرعًا، وعلى المستوى العملي، مجاهدًا شجاعًا فارسًا لا يرتعب له جنان! فكل هذا يعطينا ملمحًا قويًا على ما يجب أن يكون عليه الفقيه والعالم.
علم وعمل، لا انفصام ولا تضاد، نستفيد من شخصيته أن الفقيه في تراثنا كان الأسد في براثنه، يجمع بين صفاء النفس وقوة العزيمة وحسن إدارة الرجال وكذا الدول.
وختامه مسك
كانت مسيرة الشيخ على هذا النحو علم وعمل وجهاد واجتهاد، تربية وتعليم، كان نعم القدوة الحسنة، فلله دره من إمام. إن في سيرة الإمام عبر كثيرة، لولا خشية الإطالة لاسترسلت في ذكر المناقب وما سطره فيه الأئمة الأعلام، لكن يكفيه صنعه لدولة حمت الإسلام في الأندلس بموقعة الزلاقة فأخّر السقوط إلى أربعة قرون أخر، استشهد الشيخ في معاركه مع البرغواطيين الذي مردوا على النفاق وتنكّروا للإسلام سنة 451 للهجرة بعد أحد عشر سنة من الجهاد العلمي والعملي والذي لا زال أثره إلى أيام الناس هذا.