أبو لهب: هو عبد العزى بن عبد المطلب، من صناديد الكفر بمكة، ومن أشد الناس تكذيبًا وأذى للنبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك كانت امرأته من أشد الناس عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم، وكانت تضع الشوك في طريقه، والقذر على بابه، فلا عجب أن نزل فيهم قول الله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)} [المسد: 1 - 5].
لقد تعدَّدت صورُ الإيذاء التي قام بها أبو لهب مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقد بدأت عداوته مبكِّرةً منذ إعلان النبي صلى الله عليه وسلم الدَّعوة والجهر بها، وإمعانًا في إيذائه للنبي صلى الله عليه وسلم فقد أمر ابنَيْه عُتبة وعُتَيبة بتطليق ابنتَيْ النبي صلى الله عليه وسلم-رقية وأم كلثوم رضي الله عنهما- فقاما بتطليقيهما، روى الطبراني في المعجم الكبير، عن قتادة رضي الله عنه قال: "تزوج أمَّ كلثوم ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم عتيبةُ بن عبد العزى بن أبي لهب، فلم يبن بها حتى بُعِث النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت رقية ابنة النبي صلى الله عليه وسلم تحت (زوجة) عتبة أخي عتيبة، فلما أنزل الله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} قال أبو لهب لابنيه عتيبة وعتبة: رأسي من رأسيكما حرام إن لم تطلقا ابنتي محمد!"[1].
وقال ابن عبد البر: "وقال مصعب وغيره من أهل النسب: كانت رقية تحت عتبة بن أبي لهب، وكانت أختها أم كلثوم تحت عتبة بن أبي لهب، فلما نزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ}: قال لهما أبوهما أبو لهب وأمهما حمالة الحطب: فارقا ابنتي محمد، وقال أبو لهب: رأسي من رأسيكما حرام إن لم تفارقا ابنتي محمد، ففارقاهما"[2].
موت أبي لهب عبرة ومعجزة
وقد أخذ الله عز وجل أبا لهب بمكة، إذ أصابه مرض خبيث، يقال له مرض العدسة، وكان ذلك بعد هزيمة المشركين في غزوة بدر، فجمع الله عليه البلاء والعذاب النفسي والبدني، فمات شر ميتة. وقصة مرض وموت أبي لهب رواها الطبراني والحاكم وغيرهما عن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كنت غلامًا للعباس بن عبد المطلب، وكنت قد أسلمْتُ، وأسلمَتْ أم الفضل، وأسلم العباس، وكان يكتم إسلامه مخافة قومه، وكان أبو لهب تخلف عن بدر، وبعث مكانه العاص بن هشام، وكان له عليه دَيْن، فقال له: اكفني من هذا الغزو، وأترك لك ما عليك، ففعل. فلما جاء الخبر، وكبتَ الله أبا لهب، وكنت رجلًا ضعيفًا أنحتُ هذه الأقداح في حجرة زمزم، فوالله إني لجالس أنحت أقداحي في الحجرة، وعندي أم الفضل، إذ الفاسق أبو لهب يجر رجليه، أراه قال: حتى جلس عند طنب الحجرة، فكان ظهره إلى ظهري، فقال الناس: هذا أبو سفيان بن الحارث، فقال أبو لهب: هلمَّ إلي يا ابن أخي، فجاء أبو سفيان حتى جلس عنده، فجاء الناس فقاموا عليهما، فقال: يا ابن أخي، كيف كان أمر الناس؟ قال: لا شيء، والله ما هو إلا أن لقيناهم، فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاءوا، ويأسروننا كيف شاءوا، وايم الله ما لمتُ الناس، قال: ولِمَ؟ فقال: رأيت رجالًا بيضًا على خيل بُلق، لا والله ما تُليق (تمسك) شيئًا، ولا يقوم لها شيء، قال: فرفعت طنب الحجرة، فقلت: تلك والله الملائكة، فرفع أبو لهب يده فلطم وجهي، وثاورته، فاحتملني فضرب بي الأرض حتى نزل عليَّ، وقامت أم الفضل، فاحتجزت، وأخذت عمودًا من عمد الحجرة، فضربته به، ففلقت في رأسه شجة منكرة، وقالت: أي عدو الله، استضعفتَه أنْ رأيت سيده (العباس) غائبًا عنه! فقام ذليلًا، فوالله ما عاش إلا سبع ليال حتى ضربه (أصابه) الله بالعدسة (بثرة تخرج في البدن كالطاعون، وقلما ينجو صاحبها) فقَتَلَتْه، فتركه ابناه يومين أو ثلاثة ما يدفنانه، حتى أنْتن، فقال رجل من قريش لابنيه: ألا تستحييان أن أباكما قد أنتن في بيته؟! فقالا: إنا نخشى هذه القرحة، وكانت قريش تتقي العدسة كما تتقي الطاعون، فقال رجل: انطلقا فأنا معكما، قال: فوالله ما غسَّلاه إلا قذفًا بالماء من بعيد، ثم احتملوه، فقذفوه في أعلى مكة إلى جدار، وقذفوا عليه الحجارة)[3].
إن أحداث التاريخ منذ بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فيها الكثير من المواقف والأحداث التي تبين العاقبة السيئة لمن استهزأ بنبينا صلى الله عليه وسلم، كما حدث مع أبي لهب، وطريقة وقصة موته، وما فيها من معجزة نبوية، وعبرة للمكذبين المستهزئين بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا أمر ماضٍ إلى قيام الساعة، قال ابن تيمية: "والقصة في إهلاك الله واحداً واحداً من هؤلاء المستهزئين (بالنبي صلى الله عليه وسلم) معروفة قد ذكرها أهل السير والتفسير"[4]، وذلك مصداقاً لقول الله تعالى: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ}(الحجر:95) . قال السعدي: "وهذا وعْدٌ من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أنْ لا يضره المستهزئون، وأنْ يكفيه الله إياهم بما شاء من أنواع العقوبة"[5].
إسلام ويب
[1] والطبراني في المعجم الكبير (18912).
[2] ابن عبد البر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار الجيل، بيروت، الطبعة الأولى، 1412هـ= 1992م، 4/ 1839.
[3] الحاكم في المستدرك (5403)، والطبراني في المعجم الكبير (912).
[4] ابن تيمية: الصارم المسلول على شاتم الرسول، تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد، الحرس الوطني السعودي، المملكة العربية السعودية، ص164.
[5] السعدي: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، تحقيق: عبد الرحمن بن معلا اللويحق، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 1420هـ= 2000م، ص435.