السياب كتب قصائد تغنت بالوطن وحملت صوت آلامه وأوجاعه(الجزيرة)
من قرية صغيرة في أقصى جنوب العراق، وضع بدر شاكر السياب دعائم أساسية للشعر الحر في الأدب العربي، لتكون أبرز ثورة شعرية في القرن العشرين.
هذه الأيام، ذكرى مرور 56 عاما على رحيل السياب، الذي تأثر بالكثير من الشعراء العرب والأجانب، ولديه العديد من الدواوين الشعرية حيث وجد سلوته في الشعر، بعد حياة قاسية عاشها نتيجة وفاة والدته في صغره، وتعرض في شبابه للمطاردة والاعتقال بسبب مواقفه السياسية.
تمثال السياب على ضفاف شط العرب بمدينة البصرة
طفولة قاسية
ولد السيّاب عام 1926 في "جيكور" التابعة لقضاء أبي الخصيب بمحافظة البصرة (جنوب البلاد). وهذه القرية الصغيرة يخترقها نهر "بويب" الذي حوّله السياب بشعره فيما بعد إلى نهر أغرق سفن الشعراء، كما يقول أستاذ النقد الأدبي بالجامعة المستنصرية في بغداد الدكتور سمير الخليل.
ويضيف الخليل للجزيرة نت أن السياب عاش طفولة معذَّبة، حيث ماتت أُمه وهو في عمر السادسة، وسبّب له هذا ألما كثيرا وغصة، وما زاد ألمه أن والده تزوّج بعد سنة من وفاة والدته، وقد ذكر ذلك في شعره إذ قال:
خيالك من أهلي الأقربين .. أبَرّ وإن كان لا يعقل
أبي منه قد جردتني النساء .. وأمي طواها الردى المُعجل
وتروي آلاء (ابنة الشاعر الراحل) أن والدها نشأ كأي طفل آخر يلهو مع أقرانه في مرابع قريته الساحرة متنقلا بين بساتينها الغناء، إلا أن يد القدر لم تمهله طويلا واختطفت أمه التي كانت ملاكه الحارس.
وتضيف للجزيرة نت "هنا تغير عالمه الحالم الرحب، وغير اليتم رتم موسيقاه إلى آخر يوم في حياته، وبما أنه شاعر فكان وقع هذا الفقد عليه أثقل وأشد ألما بسبب حساسيته المفرطة ورهافة أحاسيسه، ونرى وقع ذلك تقريبا في أغلب قصائده":
كأن طفلا بات يهذي قبل أن ينام:
بأن أمه التي أفاق منذ عام
فلم يجدها، ثم حين لجّ في السؤال
قالوا له: بعد غدٍ تعود .. لابد أن تعود
وإن تهامس الرفاق أنها هناك
في جانب التل تنام نومة اللحود
تسف من ترابها وتشرب المطر
بداياته الشعرية
واتسم شعر السياب في الفترة الأولى بالرومانسية، ثم تأثر بجيل الشاعر المصري الراحل علي محمود طه من خلال تشكيل القصيد العمودي وتنويع القافية، عام 1947 انساق وراء السياسة وبدا ذلك واضحا في ديوانه "أعاصير" الذي حافظ فيه على الشكل العمودي وبدأ فيه اهتمامه بالقضايا الإنسانية، كما يقول أستاذ الأدب العربي والنقد القديم بجامعة البصرة الدكتور ثائر المياحي.
ويضيف المياحي للجزيرة نت أن الشاعر الراحل مزج شعره بثقافته الإنجليزية متأثرا بالشاعر إليوت في قصيدته الشهيرة "أزهار وأساطير" لتظهر محاولاته الأولى في الشكل الجديد للشعر العربي.
وفي بداية الخمسينيات كرس السياب كل شعره لهذا النمط الجديد واتخذ المطولات الشعرية وسيلة للكتابة، وفيها تلتقي القضايا الاجتماعية بالشعر الذاتي، بحسب المياحي.
ومن جانبه يرى الطبيب والشاعر وليد الصراف أن قصائد السياب تميزت بالاقتراب من التراث حد الالتصاق، والابتعاد عنه حد القطيعة، ومن الصعب أن يتجسد هذا التناقض الخصب في شعر مثل ما تجسد في شعر السياب.
ويبيّن الصراف للجزيرة نت كيف أن السياب ابتكر للمفردات علاقات جديدة مع بعضها لتكوّن جملة، وأنشأ علاقات جديدة بين الجمل ليدخل الشعر العربي إلى فضاءات لم يعرفها من قبل، كما تصرف بالتفعيلة كما يشاء ليتسع شعره لما هو أكبر.
الخليل أكد أن السياب نشر قصيدته "هل كان حبا؟" قبل نازك الملائكة
رائد الشعر الحر
ظهرت أولى قصائد الشعر الحر نهاية نوفمبر/تشرين الثاني 1946، وهو التاريخ الذي أصر السياب نفسه على وضعه حيث نشر أول قصيدة له عنوانها "هل كان حبا؟" وكانت لا تسير على النظام العمودي للشطرين، وفيها نفحة غنائية مختلفة، ويبدو أنه كان يحاول أن يقدم الدليل على أنه سبق الشاعرة العراقية نازك الملائكة التي نشرت قصيدتها الشهيرة "الكوليرا" عام 1947.
ويعتقد الخليل أن الشعر الحر لم يأت من العدم، وإنما جاء من تراكمات التطور الشعري، وحركات مثل جماعة الديوان وأبولو، وتجديد المهجرين، وغيرهم.
ويكشف عن صراع كبير بين النقاد حول من كان الرائد الأول للشعر الحر: هل نازك الملائكة، أم السياب؟ مشددا على أن الشعر الحر ليس اختراعا، بل هو نتاج إبداعي نوعي، والعبرة ليس بمن قال أولا.
وأعرب الخليل عن قناعته بأن السياب أول من نشر قصيدته، رغم تقاربه مع نازك الملائكة، وأنه توسع وعمق ونظر لهذا الشعر، وكان متمسكا به حتى وفاته.
وفي السياق ذاته، يعود المياحي ليقول إنه مع بداية الستينيات نشر السياب ديوانه "أنشودة المطر" الذي انتزع به الاعتراف نهائيا للشعر الحر من القراء وصار هو الشكل الأكثر ملاءمة لشعراء الأجيال الصاعدة.
وأكد أن الشاعر الراحل أخذ موقع الريادة بفضل تدفقه الشعري وتمكنه من جميع الأغراض، وكذلك للنفس الأسطوري الذي أدخله على الشعر العربي بإيقاظ أساطير بابل واليونان القديمة، كما صنع رموزا خاصة بشعره مثل المطر، تموز، عشتار، وقريته التي خلدها "جيكور".
وينوه المياحي إلى أن السياب لم يكن رائد الشعر الحر العربي فحسب، بل كان في طليعة الحركة الشعرية التي أرست دعائم القصيدة الجديدة، وعملت على الارتقاء بها لغة وصورة وإيقاعا.
أشعار وألوان
وعن أبرز الأعمال الشعرية التي تركها السياب رغم رحيله المبكر، يعدد الشاعر العراقي أحمد الذهبي للجزيرة نت مجموعة دواوين منها: أزهار ذابلة، أساطير، حفار القبور، المومس العمياء، الأسلحة والأطفال، وأنشودة المطر.
وإضافة إلى الدواوين السابقة يذكر: الصراف، المعبد الغريق، شناشيل ابنة الجلبي، منزل الأقنان. وينقل أبياتا من بعض قصائد السياب التي كسر بها وحدة البيت وأشاع إيقاعه العراقي المحض، فيقول:
مطر مطر مطر..
وفي العراق جوع..
ما مر عام والعراق ليس فيه جوع..
وتنثر الغلال فيه موسم الحصاد..
لتشبع الغربان والجراد..
الأعمال الكاملة للسياب صدرت مؤخرا في كتاب محقق (مواقع التواصل)
الأعمال الكاملة
وصدرت مؤخرا الأعمال الشعرية الكاملة للسياب في طبعة محققة من قبل الشاعر والكاتب علي محمود خضير الذي يرى أن السياب تجربة فريدة من اندماج الشاعر بشكل ساحر مع التجربة الحياتية، ورغم أن بعض مواضيع أشعاره تبدو محلية، لكنه كان ينطلق بها إلى ما هو عالمي، نتيجة ثقافته العالية وحساسيته الشخصية التي يتأثر بها، منفعلا ومحولا ذلك إلى فن شعري مميز.
ويلفت خضير، بحديثه للجزيرة نت، إلى أنه واجه مشاكل عدة خلال جمع أشعار السياب، من أبرزها عدم وجود أرشيف متكامل للصحف والمجلات التي كان تنشر فيها قصائده الأولى.
ويؤكد أن ألوان شعر السياب كانت متعددة، حيث بدأ بالرومانسية وانتقل سريعا إلى الواقعية من خلال بعض مشاكل المجتمع العراقي والعربي: من الفقر واضطهاد المرأة واضطهاد الشعوب، ضاربا المثل بـ "حفار القبور، المومس العمياء".
ويضيف الكاتب: ثم انتقل السياب إلى الأسطورة، واستثمرها من خلال تمرير رسائل سياسية واجتماعية وإنسانية، لكنه دفع ثمنها كثيرا فلوحق وفصل من وظيفته بسبب مواقفه السياسية، بحسب خضير.
المعاناة حتى الوفاة
عانى السياب من آلام كبيرة ومركّبة أثرت في نفسه مما انعكس على صحته، فكان لليتم دور كبير، ولانتمائه السياسي أثر آخر لا يقل عن الأول، وبسببه فصل من الوظيفة عدة مرات واعتقل وطورد كثيرا، بحسب آلاء السياب.
وبعدها اعتلت صحته فبات يتنقل بين العواصم والمشافي طلبا للعلاج (وتنوه ابنة السياب) إلى أن قصائده حملت صوت آلامه وأوجاعه، ولعل قصيدة "سفر أيوب" خير دليل:
لك الحمد مهما استطال البلاء
ومهما استبد الألم
لك الحمد أن الرزايا عطاء
وأن المصيبات بعض الكرم
وسافر السياب أواخر حياته كثيرا للتداوي ولحضور بعض المؤتمرات الأدبية، وكتب في رحلاته هذه بوفرة ربما لإحساسه الدفين باقتراب النهاية التي كان يتوقعها كل لحظة من عمره الذي انتهى عند 38 عاما، كما يفيد المياحي.
ويروي الخليل أنه حينما زارته زوجته إقبال، وهو مريض، خاطبها في ابنه غيلان وهو يقول:
إقبال يا زوجتي الحبيبة
لا تعذريني ما المنايا بيدي
ولست إن نجوت بالمخلد
كوني لغيلان رضى وطيبة
كوني له أبا وأما وارحمي نحيبه
وتختم آلاء السياب بالقول: بعد رحلة علاج طويلة بدأت عام 1962، تنقل خلالها بين بيروت وباريس ولندن، توفي السياب في المستشفى الأميري بالكويت يوم 24 ديسمبر/كانون الأول 1964، ثم نقل جثمانه إلى البصرة ليدفن هناك في يوم ممطر، وكأن المطر أراد أن يودعه.