إن الحضارة الإٍسلامية الصحيحة؛ هي التي وجدت في القرون المفضلة، في وقت الصحابة والتابعين، وأئمة الدين، فريق الهدى، وأشياع الحق، وكتائب الله في أرضه، الذين بلغوا من الدين والعلم والقوة غاية ليس وراءها مطلع لناظر، ولا زيادة لمستزيد، ففتحوا البلدان، وشيدوا الأركان، ودانت لهم الأمم، وتداعت لهم الشعوب.
تَرَى النّاسَ ما سِرْنا يَسِيرُونَ خَلْفَنَا ... وَإنْ نَحْنُ أَوْمَأنا إلى النّاسِ وَقّفُوا
هم الذين قال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم: " خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ"[1].
أولئك هم "أَبَرِّ الْأُمَّةِ قُلُوبًا، وَأَعْمَقِهِمْ عِلْمًا، وَأَقَلِّهِمْ تَكَلُّفًا، وَأَصَحِّهِمْ قُصُودًا، وَأَكْمَلِهِمْ فِطْرَةً، وَأَتَمِّهِمْ إدْرَاكًا، وَأَصْفَاهُمْ أَذْهَانًا"[2].
وهم النجوم لكل عبدٍ سائرٍ ... ... يبغي الإله وجنة الحيوانِ
وسواهم والله قطّاع الطريق ... ... أئمةٌ تدعو إلى النيرانِ
فَمن كان مفاخرًا؛ فليفاخِرْ بهم، ومن كان مكاثرًا؛ فليكاثرْ بهم، فدينهم هو الدين، وعلمهم هو العلم، مكّن الله لهم في الأرض ففتحوا الدنيا وحكموا العالم في مدةٍ لا يبلغ فيها الرضيع أن يفطم.
قال الذهبي رحمه الله تعالى: "واستولى المسلمون في ثلاثة أعوام على كرسي مملكة كسرى وعلى كرسي مملكة قيصر، وعلى أمَّي بلادهما، وغنم المسلمون غنائم لم يسمع بمثلها قط من الذهب والحرير والرقيق فسبحان الله العظيم الفتاح"[3].
وقبل انتهاء جيل الصحابة رضوان الله عليهم؛ كانوا قد فتحوا من الأندلس غربًا إلى الصين شرقًا، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
ثم إن المسلمين لم يزلْ أمرهم في إدبار بعد القرون المفضلة وقوتهم في ضعف، حتى وصلوا إلى ما وصلوا إليه اليوم من البعد عن الدين والتعلق بأذيال الكافرين.
لذلك فاعلم؛ أن الدين ما انتهجه السلف، والعلم ما طلبوه، وما سوى ذلك فلا خير فيه.
وفي هذه الأزمنة التي أتت بكل عجيب؛ ظهر قوم بهرتهم زخارف بني الأصفر وبلبلت أفكارهم وفهومهم، فشعروا - لبعدهم عن الحق - بنقص إزاء ما يرونه، فهبّوا إلى التاريخ يقلبون أوراقه لعلهم يجدون فيه ملجأً أو مغاراتٍ أو مدَّخلًا يسترون فيه هذا النقص، فطووا ذكر القرون المفضلة لأنهم يعلمون أنه ليس فيها لشفرتهم محزًّا، ولا لبغيتهم طائلًا، وأمعنوا النظر في دويلات البدع والضلالة، فأخرجوا منها زبالات التاريخ وحثالات المسلمين ممن تفلسف وتزندق وألحد في دين الله، فلمَّعوا وجوههم الكاحلة، ونفضوا عنها الدَرَن والنتن، وهيهات هيهات "هل يصلح العطّار ما أصلح الدهرُ؟"، فبارزوا بهم الكفار، فكانوا بحقٍ كعبدٍ صرعه أَمَةٌ، وكالمستجير من الرمضاء بالنار.
طلبت بك التكثيرَ فازددتُ تلةً ... وقد يخسر الإنسانُ في طلبِ الربحِ
فعرفوا بما لم يعرفوا، فما كلامهم إلا خطل، وما حديثهم إلا هَذَر، وقديماً قيل: "مَنْ أكثرَ أهجَرَ".
فالإسلام لم ينضب معينه من أفذاذ الرجال، ولا من الأئمة الأعلام، حتى يكون بحاجةٍ إلى كلّ موقوذة ومترديةٍ ونطيحةٍ ينازل بهم المسلمون والكافرين.
ولكن النكتة في ذلك؛ أن هؤلاء القوم إنما أرادوا مبارزة بني الأصفر بعلومٍ من جنس علومهم، وهذه العلوم لم يبرع فيها من المسلمين إلا الملاحدة، وغفلوا أو تغافلوا عن قوله تعالى: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) } [الإسراء: 20]، وهذا من عطائه سبحانه، والدنيا يعطيها الله لمن يحب ويكره، ولكن الدين لا يعطيه الله إلا لمن يحب، وإلا فهذه العلوم لا تدل على حق ولا تمنع من باطل، بدليل أنك لو جمعت ما عند ملاحدة اليونان والمسلمين من هذه العلوم ثم قارنتها بما عند الكافرين اليوم لما بلغت عشر معشارها.
والنقص إنما يشعر به من ابتعد عن جادة الدين، وإلا فمن سلكَ الجَدَد؛ أَمِنَ العثار.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: " وَإِذا كَانَ خير الْكَلَام كَلَام الله وَخير الْهَدْي هدي مُحَمَّد فَكل من كَانَ الى ذَلِك أقرب وَهُوَ بِهِ أشبه كَانَ الى الْكَمَال أقرب وَهُوَ بِهِ أَحَق وَمن كَانَ عَن ذَلِك أبعد وَشبهه بِهِ أَضْعَف كَانَ عَن الْكَمَال أبعد وبالباطل أَحَق والكامل هُوَ من كَانَ لله أطوع وعَلى مَا يُصِيبهُ أَصْبِر فَكلما كَانَ أتبع لما يَأْمر الله بِهِ وَرَسُوله وَأعظم مُوَافقَة لله فِيمَا يُحِبهُ ويرضاه وصبرا على مَا قدره وقضاه كَانَ أكمل وَأفضل وكل من نقص عَن هذَيْن كَانَ فِيهِ من النَّقْص بِحَسب ذَلِك"[4].
ولو أمعنوا في دراسة التاريخ؛ لاتضح لهم جليًا إن المسلمين لم يضعفوا ويتسلط عليهم الكفار والتتار والباطنية وغيرهم إلا بعد انتشار مثل هذه العلوم والعلماء بين المسلمين.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: " لَكِن جماع الْخَيْر أَن يَسْتَعِين بِاللَّه سُبْحَانَهُ فِي تلقي الْعلم الْمَوْرُوث عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يسْتَحق أَن يُسمى علمًا وَمَا سواهُ إما أَن يكون علمًا فَلَا يكون نَافِعًا وَإِمَّا أَن لَا يكون علمًا وإن سمي بِهِ وَلَئِن كَانَ علمًا نَافِعًا فَلَا بُد أَن يكون فِي مِيرَاث مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا يُغني عَنهُ مِمَّا هُوَ مثله وَخير مِنْهُ"[5].
وقال ابن رجب رحمه الله تعالى: "فالعلم النافع من هذه العلوم كلها ضبط نصوص الكتاب والسنة وفهم معانيها، والتقيد في ذلل بالمأثور عن الصحابة والتابعين وتابعيهم في معاني القرآن والحديث، وفيما ورد عنهم من الكلام في مسائل الحلال والحرام والزهد والرقائق والمعارف وغير ذلك، والاجتهاد عَلَى تمييز صحيحه من سقيمه أولاً، ثم الاجتهاد عَلَى الوقوف عَلَى معانيه وتفهمه ثانيًا، وفي ذلك كفاية لمن عقل، وشغل لمن بالعلم النافع عني واشتغل"[6].
وقال الشافعي رحمه الله تعالى:
كلُّ العُلُومِ سِوى القُرْآنِ مَشْغَلَةٌ.. إلاَّ الحَديث وَعِلْمِ الفِقْهِ في الدِّينِ
العلمُ ما كانَ فيه قالَ، حدثنا.. وَمَا سِوى ذَاكَ وَسْوَاسُ الشَّيَاطِينِ
والحاصل: إن الحضارة الإسلامية لا تقاس بعمران الدنيا ولا بعلومها، فإن المسلمين لما اشتغلوا ببناء القصور الفارهات، وبتعلّم الفلسفة والمنطق والطبيعة، وركنوا إلى الدنيا واستهانوا بالعلوم الشرعية؛ رماهم الله بالدواهي والمصائب.
منقول بتصرف من كتاب الحضارة الإسلامية بين أصالة الماضي وآمال المستقبل لعلي بن نايف الشحود، 4/ 40، 41.
قصة الإسلام
[1] البخاري: كتاب الشهادات، باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد (2509).
[2] ابن القيم: إعلام الموقعين عن رب العالمين، تحقيق: محمد عبد السلام إبراهيم، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1411هـ= 1991م، 1/ 63.
[3] الذهبي: تاريخ الإسلام، تحقيق: الدكتور بشار عوّاد معروف، دار الغرب الإسلامي، الطبعة: الأولى، 2003م، 2/ 93.
[4] ابن تيمية: الزهد والورع والعبادة، تحقيق: حماد سلامة ومحمد عويضة، مكتبة المنار،الأردن الطبعة الأولى، 1407، ص 107.
[5] ابن تيمية: الزهد والورع والعبادة، ص96.
[6] ابن رجب الحنبلي: مجموع رسائل ابن رجب، تحقيق: أبو مصعب طلعت بن فؤاد الحلواني، الفاروق الحديثة للطباعة والنشر
الطبعة الأولى، 1424هـ - 2003م، 3/ 26.