استاذي في الفلسفة
يتفق المسلمون جميعًا على وجود الدس والتدليس والتحريف والتزوير في كثير من الموارد التاريخية والموروثات الدينية التي إنعكست بتداعياتها على الحياة الإجتماعية العامة في مختلف المراحل اللاحقة، ولعل من أبرز عوامل ذلك التحريف هو العامل السياسي المتمثل بالدور الذي لعبه حكام الجور والطغيان في توطيد عروشهم وإضفاء الصفة الشرعية والمشروعية على حكمهم وتسلطهم وتبرير قبائحهم المادية المعنوية.
ومن تلك الاكاذيب والترهات ما سجل من طعن وإفك بخصوص أم المؤمنين السيدة عائشة (رضي الله عنها) وهذه القضية هي من أقبح وأهون ما طرح على عرض نبي الإسلام الأقدس وهي مما يندى لها جبين الساقطين وجباه الداعرين فضلاً عن الشرفاء من المؤمنين.
فتصور الآن لو أن أحداً طعن بعرض وشرف أحدا آخر علناً وأمام الملأ، فما هي ردّت فعل الآخر؟! وكيف سينتفض وينتصر ويدافع عن عرضه وشرفه؟! فما بالك بزوجة وشرف نبيّك الحبيب المصطفى الاكرم؟! فلابد من إنتفاضة فكرية علمية ودفاع ونصرة لرسول الله إثباتاً لأفضليته وقدسية شرفه على الخلق أجمعين من الأولين والآخرين وسيكون الكلام بمستويين (العقائدي والأخلاقي).
المستوى الاول
إن الله عز وجل عندما طرد إبليس من الجنّة إذ قال جلت قدرته في كتابه الكريم : (قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) سورة ص 77 وهنا يتبادر سؤال للذهن تلقائيًّا وبديهيًّا ! وهو أنه كيف إستطاع إبليس الدخول مرّة أخرى إلى الجنة؟؟ وكيف تسنّى له أن يغوي حوّاء لتقنع نبيّنا آدم أن يأكلا من تلك الشجرة في حين إبليس مطرود منها بأمر الله العزيز الحكيم ! أوليس الأمر مثيراً للاستغراب ! فكيف ساغ له ذلك الدخول؟
وللاجابة عن هذا الاستفهام أقول:
إن الله حينما طرد إبليس من الجنّة كان طردًا حكميًّا وتشريعيًّا وليس فعليًّا تكوينيًّا فقوله: (فاخْرُجْ مِنْهَا) بمعنى إن الله أمره بالخروج وحرّم عليه الدخول تشريعاً وحكماً, ولكنه عصى ربه ودخل مرّة أخرى، فلم يكن طرداً تكوينيّاً ولو كان اخراجه بالأمر التكويني لما إستطاع أن يخالف هذا الأمر إطلاقاً وما كان له ذلك أبداً, فهنا إبليس عصى الأمر ودخل الجنّة فخالف الحرمة والمنع التشريعي ودخل مرّة أخرى.
اما بعد ذلك فأنّ الله منع إبليس من الدخول منعاً تكوينيّاً وماديّاً هو ومن معه من الشياطين من دخول الجنّة أو صعود السماء ليسترقوا السمع من الملائكة وكان ذلك بعد أن بعث الحبيب المصطفى (صلى الله عليه وعلى آله وصحبه) وأنزل في قرآنه الكريم وقوله عز وجل: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ) الملك الآية (5).
فهنا أصبح الأمر تكوينياً لمنع إبليس وشياطينه تكوينياً من الورود الى الجنّة وأصبح دخولهم امراً مستحيلاً أبد الآبدين لأنه من أمر الله الفعلي التكويني والا فسيلحقه شهاباً مبين ليحرقه ويتلفه.
قال تعالى: (وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ* إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ) الحجر الآية (18)
وقوله سبحانه: (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا) الجن الآية (8)
وقوله عز وجل: (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ) الصافات الآية (10).
فيجب ان تميّيز وتفرّق بين التحريم التشريعي والتحريم التكويني، أو المنع التشريع والمنع التكويني، وبتعبير آخر بين الجعل والمشيئة التشريعية والجعل والمشيئة التكوينية، وهذا الحال نفسه يجري مثلاً في حكم حرمة أكل الميتة, بينما يمكن للمرء ان يعصي ويأكل الميتة لأنه تشريع ويمكن للعاصي مخالفته, ولكنه لا يستطيع خرق الجدار بجسمه لأن تكوينه يمنع من ذلك.
الان وبعد أن أصبح الفرق واضحاً بين المعنيين فالتشريعي يمكنك أن تخالفه بأن تعصي التشريع وتفعل المحرم أما المنع الثاني التكويني فمن المستحيل تحقق المخالفة فيه.
ياتي الكلام في خصوص عفة وطهرة أزواج النبي الأمين، فقد ورد في القرآن الكريم قول الله تعالى: (مَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا) الأحزاب الآية (53) وقوله جل وعلا: (وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُم) الأحزاب الآية (6) فقد منع الله تعالى الزواج من أمهات المؤمنين زوجات النبي الخاتم بأمر تكويني وليس تشريعيا يعني أن الناس لا يستطيعون الزواج من نساء النبي تكويناً وذلك بأمره عز وجل فقال: ( وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا)
ومعنى ذلك أن الأمر فيه إستحالة قطعية مطلقة بلا أدنى شك او إستثناء، ولا يستطيع أحد فعل هذا ولو اجتمع الجن والإنس وكل الخلائق فلا يكون هذا ولا يحدث إطلاقاً, لأنه من جعل الله عز وجل وبأمره التكويني وليس تشريعاً وحكماً يمكننا مخالفته, وما كان لنا ان نخالفه.
ويتضح الأمر أكثر عند ملاحظة مثال الأمر التشريعي في قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ) النساء الآية (22) فالمنع تشريعي بخلاف المنع الوراد في الآيتين من سورة الأحزاب. ففي هذه الآية التحريم والمنع تشريعي بمعنى لا يحق لكم هذا شرعاً وحرم عليكم فهو حكم شرعي ومنع تشريعي يعني لو أراد المرء المنحرف اجلكم الله أن يفعل هذا لاستطاع ذلك بالمعصية، فيمكن للفاسق ان يخالف التشريع ويفعل ذلك المنكر والقبيح وهذا متحقق في الخارج وقد حدثت حالات عديدة قذرة مشينة من زواج المحارم, ولكنه لا يستطيع أحداً أن يخالف المنع التكويني بقول الله تعالى في الأحزاب:(وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) وقوله: (مَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا) وهذا يعني: ممنوع ذلك بأمره تعالى ولا يكن لاحد، لاحظ التعبير القرآني (مَا كَانَ لَكُمْ) ولم يقل حرمنا عليكم أزواج النبي حتى يستطيع أحد أن يعصي الأمر والتحريم.
وهذا الكلام بالنسبة للزواج بالعقد الشرعي فهو غير ممكن الحدوث والحصول والوقوع والتحقق إطلاقًا، لأنه من أمر الله التكويني، فما بالكم بالفاحشة وكيف بالذي يفتك ويهتك ويطعن بشرف النبي ويقول أن زوجته خانت وزنت !! استغفر الله من هكذا معتقد فاسد والعياذ بالله !!
وأما معنى الخيانة الواردة في القرآن الكريم بخصوص أزواج بعض الأنبياء كما قوله تعالى: (امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا) التحريم الآية (10) فان الخيانة التي ذكرها القران الكريم هي خيانة المبدأ والدين والعقيدة وخيانة القضية وليست خيانة الفراش.
المستوى الثاني
حينما أرسل الله تعالى خاتمًا للنبيّين والمرسلين وفضّله عليهم أجمعين ليجعله حجة على العباد في يوم القيامة من كل الأمم السالفة واللاحقة، فمن البديهي أن يكون هذا الرسول معصومًا من الزلل والخطأ والسهو والنسيان والإشتباه لأنه أنقى وأسنى وأرقى وأسمى وأطهر وأكمل مخلوق في كل الوجود, ويفوقهم من كل النواحي والمزايا والصفات والكمالات, وهذا لكي لا تبقى معذرية للعباد أمام الله في يوم الحساب، ومحال أن يحدث ما يناقض هذا؛ لأنه يستلزم ضعف حجة الله على العباد يوم القيامة, وحاشا لله ان يضعف حجته أمام عبده يوم الحساب.
اذن فأنت أيها الطاعن بعرض النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم) إذا كنت مسلماً فانّك تقر وتعترف وتعتقد أن الرجل الذي إختاره الله رسولاً لعباده هو أعلى مرتبة منك في كل الصفات والمستويات والكمالات، فهو يفوقك في العلم والطهارة والعفة والشرف والفطنة والحكمة وطهارة المولد والبلاغة والمنطق والتفسير والنسب والصلاة والصوم وكل أنواع العبادات والإنصاف والشجاعة والبسالة والمبارزة ووو.... فهل يعقل أنك تتفوق على نبيك بصفة واحدة وكمال واحد لم يرتق إليه الخاتم وهو طهارة وشرفية الزوج !!!
وانت أيها الإنسان الوضيع المذنب العاصي الجاني تعتقد بتمامية عفّة وعرضك زوجتك وتجزم بشرفها وسترها حتى تموت وحتى بعد موتك، وترى أن النبي الأكرم لم ينعم بهذه الكرامة وهذه الخصوصية والميزة التي نالها من هو دونه من المرسلين والناس أجمعين؟؟ فصرت أنت أشرف منه سمعةً وأجل كرامةً وأعلى قدرا منه حاشاه !! وهل أن الله عز وجل إستطاع أن يصون ويحفظ عرضك أنت العبد المذنب المليء بالعاصي؟ وعجز وهو جبار السماوات والأرض العزيز الغيور جلّ ثناؤه عن صيانة وحفظ سمعة وعرض وشرف نبيه المعظم من الخلل والدنس فيجعله عرضة للتشهير !
أستغفر الله ربي سبحانك وتعاليت عما يصفون (عذراً سيدي يا رسول الله وسامحني على هذا التفصيل الذي أكتبه مجبراً ورغماً عني وفرائسي ترتعد بمجرد التفكير فيه).
هذا إذا كنت مسلما أما إذا كنت كافراً فالكلام ليس معك، ومن كان ليعطي رأيه الشخصي في ثوابت القران والعقيدة فأنا أنصحه أن يتراجع عن هذا الإنحراف العقائدي القذر، لأن زوجات النبي (صل الله عليه وآله وصحبه وسلم) كلّهنَّ طاهرات وحافظات لفروجهن.
فكل مسلم مخدوع بقول أئمّة الضلال والإضلال والفساد عليه أن يصحح عقيدته ويحذر من أن يكون أداة طيعة لتمرير هكذا عقائد كافرة والتي عمل أعداء الإسلام من يهود وملحدين ومجوس وغيرهم جاهدين على دسّها، وذلك للطعن بشرف النبي العربي التهامي المكي المدني القريشي الحجازي (صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم) خير الخلائق أجمعين.
بعد قراءة المقال هل تعتقد اخي القارئ ببقاء تصديقك لتهمة الخطباء لزوجة النبي عائشة؟
ام تم التفنيد العلمي