كثيرة هي الغارات التي شنت - ولا تزال - على تاريخنا الإسلامي، وقديمة - أيضًا - هي هذه الغارات، وموصولة تتدافع حلقاتها في سلسلة يأخذ بعضها في خناق بعض... وتعود هذه الغارات قديمها وحديثها لأخطاء أساسية.
وأخطاء تتصل بسيطرة (المذهب) على (المنهج) و(الولاء المسبق) على (الحقيقة الموضوعية). وأخطاء تتصل (بمخططات موصولة) تهدف إلى القضاء على عظَمة تاريخ هذا الدين وعظمة حضارته.
وأخطاء تتصل (بأحقاد موروثة) نشأت منذ ظهر الإسلام على هذه الأرض واستطاع ببساطته وملاءمته للفطرة ووضوح حقائقه العقدية والتشريعية والأخروية أن يغير مجرى التاريخ، وأن يعيد رسم خريطة العالم، وأن يتسنم ذووه ذروة الحضارة، ولقد قام تاريخ هذا الإسلام وقامت حضارته فوق الساحة نفسها التي كانت لعقائد أخرى - بطبيعة الحال - فكان هذا مبعث أحقاد لدى أصحاب هذه العقائد.
وأخطاء تتصل بأسباب أخرى كثيرة لكنها - في معظمها - تلتقي عند نقطة (الصراع الحضاري) الذي يعني (تشويه) تاريخ هذه الأمة والانتقاص من قدر تجربتها في التاريخ ودورها في الحضارة، ويعني - أيضًا - طمس (العوامل) التي جعلت هذه الأمة تثب هذه الوثبة العظمى في التاريخ ... حتى أصبحت مكتبة الحَكَم المستنصر بالله بن عبد الرحمن الناصر تضم أربعمائة ألف مجلدٍ بينما كانت أكبر كنيسة في أوربا - أو مكتبة عامة - لا يزيد ما تمتلكه من الكتب عن (192) كتابًا.
فكيف حدث هذا القفز الحضاري الهائل؟ وكيف استطاع جيل الصحابة الذي نشأ في صحراء العرب الوثنية بصفة عامة أن يصنع هذا التحول الحضاري الخطير الذي لم يتكرر في التاريخ!!.
لقد كانت أحداث المائة الأولى من عصور الإسلام من معجزات التاريخ، والعمل الذي عمله أهل المائة الأولى من ماضينا السعيد لم تعمل مثله أمة الرومان ولا أمة اليونان قبلها ولا أمة من الأمم بعدها.. أما جيل الصحابة - فإنهم جميعًا كانوا شموسًا طلعت في سماء الإنسانية مرة ولا تطمع الإنسانية بأن تطلع في سمائها شموس من طرازهم مرة أخرى[1].. ولكنهم شموس بشرية من عواطف وعقول وليسوا ملائكة ولا أنبياء.
إن تلك المعجزة التي صنعها (القرآن) و(التربية المحمدية) الجديرة - في نظر أعداء الإسلام - بحرب دائمة لمحو إشعاعاتها، ولصرف المسلمين عن التعلق بها والدوران في فلكها، وعن الاعتقاد بأن آخرهم لن يصلح إلا بما صلح به أولهم.
إن نماذج أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وخالد والزبير وطلحة وأبي عبيدة وعمرو بن العاص - وهلم جرًّا - يجب أن تفسر مواقفها تفسيرًا يجعل وراء ظاهرها باطنًا سيئًا يجردها من عنصر (الإخلاص) ويجب أن تكون فترة (السيرة) كلها بدءًا من صاحب الرسالة العظمى صلى الله عليه وسلم هدفًا رئيسيًا للشبهات والطعنات والتماس التبريرات المغلوطة لكل مواقف اجتهادية.
وبعد الراشدين يأتي الأمويون الذين تلقفوا الراية، وساحوا بها في الأرض، فاتجهوا غربًا حيث أتموا فتح المغرب (86هـ) الذي كان قد توقف بعد معركة ذات الصواري (35هـ) وفتحوا الأندلس (92هـ) واتجهوا شرقًا ففتحوا ما وراء النهر بقيادة المهلب بن أبي صفرة ومحمد بن القاسم الثقفي ومسلمة بن عبد الملك...
وكما لم تنج السيرة والعصر الراشـدي من ترصد هؤلاء، وكما لم ينــج الأمويون - مـن باب أولى - فقد نالت سهام هؤلاء العباسيين، وكانت السهام الموجهة إليهم أكثر...؛ لأن عمرهم قد امتد، وخلفاءهم كانوا كثرًا.. وبالتالي فإمكانية التصيد والتشويه تمتد إلى أطول مساحة ممكنة!!.
وهكذا تتوالى الحلقات، بحيث يراد لأمتنا أن تنتهي إلى الاقتناع بأن تاريخها وحضارتها لا يستحقان منها كل هذا الولاء، وبأن الانتماء إلى غيرهما لن يؤدي إلى خسارة كبيرة، بل ربما يؤدي إلى بعض المكاسب (الحداثة) و(المعاصرة)!!.
د: عبد الحليم عويس
[1] العواصم من القواصم المقدمة، بقلم العلامة محب الدين الخطيب.