حدوث العصور الجليدة مرتبط بزيادة قدرة المحيطات على امتصاص الغاز الكربوني من الجو (بيكسابي)
ظلت أسباب حدوث العصور الجليدية دون إجابة قاطعة بالنسبة للعلماء طوال العقود الماضية، ومؤخرا كشفت دراسة جديدة أن المحيطات تلعب دورا رئيسيا في حدوث هذه الظواهر المناخية.
يأتي ذلك إثر العثور على أدلة تؤكد حصول تغيرات في أعماق المحيطات أدت إلى زيادة قدرتها على امتصاص غاز ثاني أكسيد الكربون من الجو، وبالتالي خفض معدل حرارة غلاف الأرض. وبحسب الباحثين، فإن تفسير هذه الظاهرة المناخية سيحسن قدرتنا على التنبؤ بتغير المناخ في المستقبل.
ونشرت الدراسة التي قام بها فريق دولي من الباحثين بإشراف جامعة برينستون (Princeton University) ومعهد ماكس بلانك للكيمياء في ألمانيا (Max Planck Institute for Chemistry)، مؤخرا في دورية "ساينس" (Science) العلمية.
انخفاض غير مفهوم
شهدت الأرض منذ نشأتها العديد من العصور الجليدية الكبرى، كان آخرها ذلك الذي حدث قبل حوالي 2.6 مليون عام ويعرف بالعصر البليوستوسيني. وتخلل هذه العصور حدوث فترات جليدية صغيرة بمعدل واحدة كل حوالي مئة ألف سنة تقريبا.
ارتبطت هذه التقلبات المناخية المتكررة بنمو الصفائح الجليدية الضخمة فوق القارات والمحيطات في فترات من الزمن، وتقلصها في فترات أخرى. ولئن كان للتذبذبات التي تحدث في مدار الأرض حول الشمس وفي دورانها حول نفسها، دور في هذه التقلبات، إلا أنها لا تفسر وحدها هذه التغيرات الكبيرة في المناخ.
وفي سبعينيات القرن الماضي، اكتشف العلماء عاملا إضافيا يمكن أن يفسر هذه الظاهرة، إذ وجدوا أن تركيز غاز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي ينخفض خلال العصور الجليدية بحوالي 30%. لكن أسباب الانخفاض ظلت مجهولة.
لتذبذبات مدار الأرض حول الشمس ودورانها حول نفسها دور في حدوث العصور الجليدية (فليكر)
مضخات غاز الكربون
في الدراسة الجديدة، وجد الباحثون، وفقا لبيان لجامعة برينستون، أدلة تشير إلى حدوث تغيرات في المياه السطحية للمحيط المتجمد الجنوبي خلال العصور الجليدية، أدت إلى تخزين كميات كبرى من الغاز الفحمي في أعماق المحيطات.
أعاد الباحثون بناء سجلات مفصلة للتركيب الكيميائي للمادة العضوية المحصورة في أحافير الطحالب العائمة (الدياتومات) التي نمت في المياه السطحية، ثم ماتت وترسبت في قاع البحر المحيط، مستخدمين نوى الرواسب المستخرجة من المحيط المتجمد الجنوبي. إذ من المعروف أن ترسب الطحالب البحرية يعمل كمضخة لغاز ثاني أكسيد الكربون في عمق المحيط، وهي عملية تعرف باسم "المضخة البيولوجية".
وتعمل هذه المضخة بشكل فعال في المناطق المدارية وشبه الاستوائية والمعتدلة من المحيطات، لكن فعاليتها منعدمة قرب القطبين حيث يتسرب الغاز الكربوني من المياه العميقة إلى الجو عند صعودها للسطح. وفي المحيط المتجمد الجنوبي يكون الأمر أكثر سوءا بسبب الرياح الشرقية القوية التي تطوق المنطقة القطبية الجنوبية ساحبة المياه العميقة المشبعة بالغاز الفحمي إلى السطح.
أحافير الطحالب العائمة (الدياتومات) تكشف كيف زادت قدرة المحيطات على امتصاص الغاز الكربوني (جامعة برينستون)
نظائر النيتروجين
قام فريق الباحثين بقياس نسب نظائر النيتروجين للمواد العضوية النادرة المحصورة داخل أصداف هذه الحفريات، التي كشفت عن تطور تركيزات النيتروجين في المياه السطحية في المحيط المتجمد الجنوبي على مدى 150 ألف عام الماضية. وهي فترة تغطي عصرين جليديين وفترتين دافئتين.
ومكنت هذه القياسات من كشف تغيرات درجة حرارة المياه السطحية، وتحديد زمن حدوث انخفاضات تدفق مياه المحيط العميقة نحو السطح والتي تشير لبداية العصور الجليدية.
تقول المؤلفة الرئيسية للدراسة إيلين آي "إن تحليل نظائر النيتروجين المحصورة في الأحافير يكشف عن تركيز النيتروجين السطحي في الماضي. وكلما زاد تدفق المياه في القطب الجنوبي، زاد تركيز النيتروجين في المياه السطحية. لذلك سمحت لنا النتائج بإعادة بناء تغيرات الموجات الصاعدة في القطب الجنوبي".
العصر الجليدي القادم
وبحسب الباحثين، فإن نتائج هذه الدراسة ستمكن أيضا من التنبؤ بكيفية استجابة المحيط للاحتباس الحراري في المستقبل. وتشير ملاحظات الباحثين حول زيادة تيارات المياه العميقة الصاعدة إلى السطح في المحيط المتجمد الجنوبي خلال فترات الدفء في الماضي، إلى أن شدة هذه التيارات سوف تتعزز أيضا في ظل الاحتباس الحراري، مما يعني أن العصر الجليدي القادم لن يكون قريبا.
ومن المرجح أن يؤدي هذا الارتفاع، وفقا لمؤلفي الدراسة، إلى تسريع امتصاص المحيط للحرارة الناتجة عن الاحترار العالمي المستمر، لكن هناك حاجة إلى مزيد من البحوث لفهم كيفية تغير المحيط المتجمد الجنوبي وكيف يؤثر ذلك على قدرته على امتصاص غاز ثاني أكسيد الكربون.