فيلم "غرفة" متعة إنسانية سينمائية على مدار 118 دقيقة (مواقع التواصل)
بعد 5 سنوات من صدور رواية "الأسر" للكاتبة الأيرلندية الكندية إيما دونغو عام 2010، والمقتبسة بدورها من حادثة حقيقية. كان جمهور السينما على موعد مع فيلم "غرفة" (Room) للمخرج الإيرلندي ليني أبراهامسون، المقتبس بدقة من الرواية بسيناريو كتبته دونغو نفسها.
الفيلم نجح في جعل الشعور بالتوتر والإثارة والخوف لاذعا وحاضرا ولا يطاق، من خلال دراما فخمة وغنية بالعواطف؛ لكنها مفجعة لدرجة أبقت المشاهدين على حافة مقاعدهم، منجذبين نحو مساحة مظلمة وضيقة وخانقة حُبست فيها امرأة وطفل 7 سنوات، فأحدثت فيهم تأثيرا هائلا.
احتل الفيلم المرتبة 177 بقائمة الأعلى تقييما لموقع "آي إم دي بي" (IMDb)، وحصدت بطلته الأميركية بري لارسون، جميع أنواع الجوائز، وفي مقدمتها أوسكار وغولدن غلوب وبافتا، كأفضل ممثلة عن أدائها دور الأم، الذي لامست فيه سقف الكمال. كما رُشح أبراهامسون ودونغو أيضا لجائزة أوسكار وجوائز أخرى، كأفضل إخراج وسيناريو.
من خلال قصة المرأة الشابة "ما" (بري لارسون) التي اختطفت قبل 7 سنوات، لتجد نفسها وهي في 19 من عمرها، محتجزة في مساحة لا تتعدى 10×10 أقدام، وهي مخزن ومرحاض في الوقت نفسه. فتصبح رهينة في سجن عازل للصوت بمكان مهجور في قبضة شخص غريب الأطوار، أولد نيك (شون بريدغرز)، يجلب لها بعض الإمدادات الغذائية، قبل أن يعتدي عليها ليلا، ثم يتركها مع الطفل جاك (جاكوب تريمبلاي)، الذي أنجبته في هذا الأسر الوحشي.
لكن أبراهامسون يأبى إلا أن يتلاعب بنا في البداية، فيستقبلنا بأول المشاهد في هذا السجن الصغير، ليس بالبؤس والحزن؛ لكن بالفرح. حيث تظهر الأم والابن وهما يصنعان كعكة، ويضحكان في حوض الاستحمام.
لنلحظ بعد ذلك، على مدى أول ثلثين من الفيلم، كيف وظف أبراهامسون صدق بري لارسون التلقائي وإشراقها الداخلي رغم مظهرها الرث، مع موهبة جاكوب تريمبلاي الخارقة. في إظهار قدرة الأم والطفل على التواصل بأبسط الإمكانيات، حتى أشعرنا كما لو أن الحبل السري بينهما لم ينقطع بعد.
فقد استطاعت الأم بإصرارها المذهل على الحياة وقوة عاطفة الأمومة لديها، أن تجعل من تلك الحفرة عالما كاملا يعزز من قدرة طفلها على إيجاد الضوء وسط الظلام، وهي تحول له الجحيم إلى قصة خيالية، تروي له فيها الحكايات الأدبية الشهيرة المُحفزة، وتحول بكرات الورق المقوى وقشور البيض المتصلة بالخيط إلى ألعاب، وتغني له لينام، على وعد بالوصول للملاذ الآمن في منزل جدته.
ليتمتع جاك الذي لم ير أي شيء من العالم الحقيقي، بحزمة مشرقة وحيوية وصحية من السعادة، في غرفة مثلت له الواقع، مقابل تلفزيون متهالك باستقبال متقطع يقدم له الخيال، بفضل إصرار أمه، الذي لا يتزعزع، وتركيزها على رفاهيته قبل رفاهيتها، لدرجة جعلتها تتجاهل ألم أسنانها حتى تسقط.
ومع كل خطوة يتقدمها الفيلم محافظا على التركيز الشديد والتوتر العاطفي والنفسي البطيء، وبدلا من غمسنا طوال 118 دقيقة في هول هذه المأساة، التي ترهق مشاعرنا بين معاناة الأم والطفل ومحاولاتهما المستميتة للهروب من الجحيم. يختار أبراهامسون إنقاذ الرهائن في منتصف الفيلم، ليرى جاك العالم الحقيقي لأول مرة، بينما تحاول والدته التكيف مع حياة انتزعت منها على مدى 7 سنوات، بالدخول إلى غرفة طفولتها.
ونعيش نحن جولة أخرى مع متعة اللغة السينمائية، التي أجادت كاميرا المصور الموهوب داني كوهين التحدث بها بطريقة رائعة للغاية، وهي تصور لنا اللحظة التي يرى فيها جاك السماء وضوء الشمس لأول مرة، وكأن عينيه تجدان صعوبة في التخلص من إحساس السجن، الذي كان يشعر به في الغرفة.
وهو لا يدري أنه سيرى كل شيء في هذه الدنيا لأول مرة، سواء عندما تلمس أقدامه الأرض، أو يصعد سُلما أو يرى كلبا، وسينظر لكل شيء بشكل مختلف، وربما يراه مخيفا لأنه جديد على عينيه، كغرفة المستشفى ذات الجدران البيضاء.
وليتوهج حضور جاك ويزدهر برفقة جدته نانسي (جوان ألين) التي تعطي ابتسامتها دفعة للثلث الأخير من الفيلم، بالرغم من أنها محطمة عاطفيا؛ إلا أن وجود الرجل الجديد في حياتها، ليو (توم مكاموس) ساعدها في دعم جاك وتشجيعه.
بالإضافة إلى تعليقه الصوتي المليء بالمشاعر الطفولية، والذي جاء ليُضفي سحرا على السرد طوال الوقت، ويبعث الدفء والأمل والارتياح رغم كل الصعاب، قدم الطفل جاكوب تريمبلاي، البالغ من العمر 9 أعوام، أحد أفضل عروض الأطفال، التي قُدمت على الشاشة على الإطلاق.
فقد أكسب حضوره الفيلم نقاء بلوريا غامرا، جعل الحياة محتملة بالنسبة لوالدته، كما جعل الفيلم محتملا بالنسبة للمشاهد، بضحكاته وسعادته وصرخاته وضجره.
فالفرح الذي عبر عنه مع أمه، رغم الغرفة الأقرب إلى الزنزانة ومحتوياتها الفقيرة. وروحه المفعمة بالحيوية رغم حرمانه تماما من الضروريات والملذات التقليدية في الحياة، لدرجة جعلته يزهد فيها حتى بعد نيله حريته.
كل هذا يُشعرك بأشياء مختلفة في أوقات مختلفة، تجعل من الصعب تفادي البكاء أثناء الفيلم.
فعلى حد وصف الناقد السينمائي إيان فيليبس "أحيانا يكون الفيلم جيدا لدرجة تجعلك تشعر بأشياء من المستحيل شرحها". فهو أكبر بكثير من مجرد تجربة سينمائية شديدة الإحساس، مستوحاة من جرائم الحياة الواقعية، أو قصة رعب بسيطة، أو قصة بقاء مشوقة، رغم أنه يحتوي على كل هذه العناصر.
ليبقى أحد أفضل الأشياء في الفيلم، هو الرسالة التي يتركها في النهاية، بأنه "يمكننا إغلاق باب الماضي، والتطلع إلى المستقبل الذي ربما يكون قد بدأ للتو".