لا يوجد شيطان There Is No Evil هو عنوان فيلم محمد رسول أف الذي تسبب في الحكم عليه بالسجن والمنع من صناعة الأفلام، وهذا العنوان هو عتبة النص كما يقال في المسرح أو مفتاحه الذي يمكننا عبره فهم باقي عناصره وخاصة القصة المعقدة التي تتكون من 4 لوحات أو فصول كل منها يبدو كما لو أنه منفصلًا بذاته يجمع بينه وبين الآخرين الفكرة العامة ولكن الأمر أعقد من ذلك.

فالمخرج يأخذ المشاهد في رحلة عقلية، تتابع فيها الأسئلة وكلما ظن المشاهد إنه وصل إلى الجواب المثالي أكتشف أن الأمر ليس بتلك السهولة، فيطرح عليه المخرج المزيد من الاحتمالات التي تحير عقله.

الثيمة الأساسية الذي تدور حولها أحداث الفيلم هي عقوبة الإعدام، ولكن هذه المرة لم يتم تناولها من عين السلطة التي تلقي هذه الأحكام، أو حتى المحكوم عليهم، ولكن من زاوية جديدة وهي هؤلاء الأشخاص الذين يقومون بالخطوة الأخيرة في الإعدام، الذين تتلوث أيديهم بصورة مباشرة بدماء الضحايا سواء كانوا مذنبين أو غير مذنبين.

يبدأ الفيلم بالقصة الأولى حول عائلة طبيعية للغاية من الطبقة الوسطى، أب وأم وطفلة، أسرة كادحة سعيدة صغيرة، تبدو متوائمة ولكن منشغلة بكثرة المهام الاجتماعية، تتعاطف معها سريعًا خاصة مع المجهود الذي يقوم به الزوج والزوجة في رعاية الجدة، والأبنة، وتشعر بالقلق على مصيرهم، فبالتأكيد المخرج لم يحضر لنا قصة حياة أسر هانئة في فيلم يحمل عنوان لا يوجد شيطان، وذلك حتى تأتي نهاية هذا الفصل بمعرفة المهنة الحقيقية للأب، وهي ما يشبه “عشماوي” في ثقافتنا الشعبية أي المسئول عن الأعدام.

ويبدأ المشاهد في تذكر حديث الزوجة عن العمل الليلي لوقت طويل الذي يقوم به، والأجر الضعيف واجتهاده في عمله، وراتبه الذي استلمه للتو وأشترى به طعام أمه وأخذ ابنته لتأكل البيتزا، فتشعر بالفزع من هذا التعامل الهين مع الموت، والمال الملوث بالدم ولكن في نفس الوقت لا تشعر إنك تدينهم بصورة تامة، فهذا هو عمله الذي يكسب عليه أجره ويعيل أبنته وأمه وزوجته، وهو زوج ممتاز يعتني بزوجته ويصبغ شعرها بنفسه وينام مجهدًا غير قادرًا على الحركة من المجهود.

يتركك هذا الفصل وأنت شاعر بالقليل من الطمأنينة لما توصلت إليه وعدم قدرتك على إدانة البطل، لنفقز مباشرة إلى الوضع المعاكس لما يقوم به “حشمت” في الجزء الأول، فبطل الفصل الثاني شاب يقوم بالخدمة العسكرية في الجيش، ويجب عليه حتى يحصل على إجازة لمدة ثلاث أيام أن يقوم بعملية إعدام لأحد المتهمين.

يجلس الشاب مرتجفًا باكيًا يرفض أن يلوث يديه بالدماء، ولكن الرفض قد يطيل خدمته العسكرية إلى مالا نهاية، ويدمر أحلامه بلقاء حبيبته والسفر معها.

نعاني مع البطل حيرته الكبيرة بين الرضوخ للقواعد والقوانين كما فعل البطل في القصة الأولى، أو التمرد عليها وملاقاة مصير لا يعلمه إلا الله.

ويبدأ اليقين والراحة الذي توصلنا لهما في نهاية الفصل الأول بأن حشمت يقوم فقط بعمله يتبدد، لأننا نعرف أن هناك أشخاص آخرين لا يستطيعون القيام بهذا العمل، وأن هناك ضمير وقلب يرفضان قتل آخر بسهولة، وأن الدم غالي في كل الأحوال، فنتشكك في أنفسنا، ونتمنى لبطلنا الجديد حدوث معجزة تنقذه من مصيره، والتي تحدث بالفعل بهربه بطريقة درامية للغاية ومثيرة على شكل الأفلام الأمريكية، وينتهي هذا الفصل نهاية سعيدة.

إذًا تبدأ القصة الثالثة وأنت تعلم أن هناك خيار والأمر ليس فقط “أكل العيش” أو محاولة التخلص من الخدمة العسكرية بسلام، بل هناك دم وهناك اختيار، وتشعر أن وصلت إلى اليقين مرة أخرى، الأمر الذي لا يستمر طويلًا في أفعوانية محمد رسول أف النفسية التي تصحبنا في الفصل الثالث إلى وجهة النظر الأولى مرة أخرى ولكن بعين جديدة.

ونتعرف هذه المرة على شاب مجند كذلك، عاشق لحبيبة جميلة يخلص لها وتخلص له، يحصل على عطلة لمدة ثلاثة أيام ليحضر عيد ميلادها ويطلبها للزواج، ولكن يفاجئ أن بدلًا من الحفل مأتمًا لأن صديقًا للعائلة تم إعدامه مؤخرًا.

لتبدأ الأزمة النفسية التي يقع فيها بطل الحكاية عندما يعلم أنه من قام بالخطوة الأخيرة في عملية الإعدام، وسلب عائلته الجديدة سعادتها.

يقوم المخرج هنا بإدارة الموقف والنظر له من زاويتين جديدتين، الأولى عين الجندي الذي ظن إنه يقوم بعملًا روتينيًا بهدف الحصول على إجازة ويكتشف بشاعة جرمه، وثانيًا تأثير فعل الإعدام على أهل الضحية، ولكن كذلك لا تستطيع أن تدين الجندي الذي كان يؤدي وظيفته وفي ذات الوقت تتذكر زميله من الفصل السابق الذي أتخذ قرارًا مغايرًا وتشعر أن الآخر فاز بنفسه وهو الحل المثالي للهرب من هذا الخيار المميت، لتنتهي هذه القصة بشكل حزين وتسلمنا إلى الفصل الرابع والأخير.

يأخذنا هذا الفصل إلى مكان آخر نظن فيه إننا ابتعدنا عن الموت والإعدام، حيث قرية نائية تحضر إليها فتاة عشرينية لتقابل أصدقاء لوالدها وتعيش معهم لفترة من الزمن، نتعرف على البطل الجديد كهلًا في منتصف العمر، يعاني من المرض، ولا يحمل أوراق شخصية فلا يستطيع القيادة على الطرق العامة.

ويبدأ المشاهد في التساؤل عن علاقة هذا الشخص بالقصص السابقة، ولكن لا يحتاج الأمر الكثير من الذكاء لربطه بالقصة الثانية، فهو البطل الهارب سعيد الحظ الذي نجا من قيامه بعقوبة الإعدام وحافظ على يديه نظيفتان من الدم، وهنا نحن نشاهده بعد عشرين عامًا فماذا كان مصيره ؟

بعدما جعلنا المخرج ندين البطل في الجزء الثالث بشكل أو بآخر بقيامه بعمليات الإعدام على عكس زميله الذي هرب، يجعلنا هنا نشاهد مصير الهارب، وهل عاش في جنته المزعومة؟ ولكن نكتشف أن الأمر لم يكن بهذه السهولة، فبهربه قرر أن يعيش على هامش المجتمع، في قرية بلا كهرباء سوى تلك التي يحصل عليها من أشعة الشمس، لا يستطيع ممارسة مهنته بصورة نظامية، لا يستطيع قيادة سيارته لا يستطيع تربية ابنته التي يلقاها لأول مرة شابة لا تعرف هويته، يرينا هذا الجزء عمق الخسارة التي خسرها بقراره.

وبالتالي في الأربع فصول أو القصص الأربعة جعلنا المخرج نطلع على الفكرة ذاتها ولكن من جوانبها المختلفة، ليقول لنا في النهاية إنه لا يوجد شر ولا يوجد شيطان، ليقف بجانب الإنسانية، ولا يدين أي من شخصياته، ولكن في ذات الوقت يجعلنا نلقي بنظرة جانبية على الشيطان الحقيقي والشر الحقيقي الذي قرر هذه المرة أن يعطيه ظهره وينظر لشخصيات طبيعية تشبه المشاهدين أكثر، ولكن هذا الشر لم يلبث أن طارده هو شخصيًا في شكل حكم بالسجن والحرمان من صناعة الأفلام بسبب فيلمه هذا وأعماله السابقة.

وبصورة درامية يكتشف المشاهد بعد الفيلم وجود الشر، ولكن بالفعل في هذا الفيلم لا يوجد شر، ولا يوجد خير، ولا نستطيع الإدانة والحكم على الآخرين وإلا سنصبح مشابهين لتلك السلطة الجائرة التي يحذرنا منها الفيلم بصورة خفية.

وعلى الرغم من أن الفيلم يقدم قصة واحدة كبيرة من أربعة فصول إلا إن صورته السينمائية تتباين بتباين هذه الفصول الأربعة، فنجد أن الفصل الأول تدور أحداثه طوال الوقت في أماكن ضيقة، سواء السيارة أو المنازل أو أبطال محصورون بداخل كادرات ضيقة، ليظهر لدينا مقدار الضغط الأجتماعي وضغط طبقتهم وقواعدها ومهامها، مع جعل المشاهد كالمتصلص على حياة هذه الأسرة العادية التي تشبهه بشكل أو بآخر.

ولكن يختلف الأمر في الفصل الثاني الذي تم تصوير أغلبه في مكان يشبه السجن نعرف بعد ذلك إنه سكن للمجندين، الممثلين في هذا الفصل محصورين في إطار مربع ثابت طوال الوقت، مع ديكورات جافة الألوان، ولكن الكادرات كانت مقسمة بالأسرة الخاصة بالمجندين، والتي حصل بطلنا على السرير بالمنتصف في الأعلى فيما يشبه رؤيته هو لنفسه كشخص ملائكي أو يحمل مثلًا تجعله أسمى من الأخرين ذوي الأيدي الملطخة بالدماء.

إنما الأنقلابة الأكثر في الصورة تحدث في الفصلين الثالث والرابع، حيث يأخذنا المهرج بعيدًا عن المدن والسجون، هذه المرة نتوجه إلى الطبيعة التي تختلف في كل فصل عن الآخر.

الفصل الثالث نجد أن الموتيفة السائدة هي الماء، يبدأ المشهد بالبطل يصل إلى القرية يترك ملابسه تحت الشجرة ثم يغتسل بالماء، وعندما يعلم جريمته يتوجه إلى الماء ليحاول إغراق نفسه، الماء هنا إشارة إلى التطهر من الدماء، حيث يرغب البطل حتى بصورة غير واعية في التخلص من إثمه والشعور بالنظافة عبر الماء.

وفي ذات الوقت الطبيعة الجميلة والألوان الخضراء والأشجار كلها تصنع تضادًا واضحًا مع مدى الحزن والبؤس الذي يعيشه الأفراد في هذا المحيط، بداية من الجندي العائد، وأهل المنزل الذين لا يستطيعون حتى إقامة عزاء لفقيدهم، وفي النهاية تلفظ الحبيبة حبيبها وتعيده إلى السجن، لأن الجمال والسلام لا يحتملان إثمه أو الدماء التي تلطخه مهما تطهر بالماء، ويعود مرة أخرى إلى مشاهد الفصل الثاني الأكثر ملائمة له.

بينما الفصل الرابع على الرغم من اتساع المساحات واستخدام التصوير الخارجي إلا إن الطبيعة نفسها مختلفة هنا، فعلى العكس من الأخضر الوارف المستخدم قبلًا نجد هنا الصحراء الصفراء القاحلة هي السائدة، طبيعة خشنة تتلائم مع مقدار التضحية الذي قام بها البطل والنتائج التي حدثت جراء ذلك.

فاز فيلم There is no evil بجائزة الدب الذهبي من مهرجان برلين السينمائي، والتي لم يستطع مخرجه تسلمها، ويثبت أن السينما الإيرانية لازالت تحتمل الكثير من الروعة والجمال في أثواب بغاية البساطة ولن تتوقف عن تحدي سينما العالم حتى تلك باذخة الميزانيات.





علياء طلعت - أراجيك