إذ كنا نحيا فى بلاد أعتادت الحياة السليمة الديمقراطية. فإن حكم الفرد فيها يبدو لنا أمراً غير مألوف. ولكن غالباً ما يحدث فى أوقات الأزمات أن يصل رجل قوى إلى السلطة و ينقذ بلاده بوسائله المطلقة، وهذا الرجل يضع الأسس التى يستطيع أتباعه أن يبنوا عليها نوع النظام الديمقراطى المطلوب. وكان كمال أتاتورك واحداً من هذا الطراز و يشير أسمه الثانى ( أتاتورك = أبو الترك ) إلى الدور المهم الذى أداه فى تاريخ بلاده. فقد كان رجلاً وطنياً شجاعاً، و بالرغم من أتسام أعماله بالقسوة أحياناً فإنه لم يكتسب أحترام الترك و إعجابهم فحسب، بل أعجب به العالم أجمع بفضل ما صنعه لتركيا فى السلم وفى الحرب. و إذا ما خدمنا الحظ وزرنا تركيا اليوم - بعد سنوات عديدة على وفاة أتاتورك - فإننا سنشاهد صورة معلقة فى كل حانوت وفى كل مكان.
أنحدر مصطفى كمال - الذى عرف فيما بعد بأسم أتاتورك - من أسرة فقيرة نسبياً. وقد أرسل فى سن مبكرة إلى مدرسة عسكرية، فأمتاز بإقباله على العمل الجاد و بمهارته فى الرياضيات. وقد أعجب الأساتذة بهذا التلميذ الفذ و أطلق عليه أحدهم لقب " كمال "، وظل مصطفى محتفظاً به حتى آخر لحظة فى حياته.
أنغمس كمال بالسياسة فى سن مبكرة، وكان هدفه إصلاح الأمبراطورية التركية المنحلة، ولكن السلطات أكتشفت نشاطه. وما أن تخرج كمال فى المدرسة برتبة ملازم حتى أعتقل و نفى إلى دمشق.
غير أن كمال لم يتخاذل أمام هذه العقبة، فأنصرف إلى متابعة العمل الجاد ورقى إلى رتبة نقيب. وعندما أندلعت الحرب مع إيطاليا فى شمال أفريقيا عام 1911 تطوع كمال للسفر و الحرب فى صفوف الجيش التركى. وكانت النتيجة أن رقى إلى رتبة مقدم عام 1913.
فى عام 1914 أشتعلت نيران الحرب العالمية الأولى، وقررت تركيا دخولها إلى جانب ألمانيا و الأمبراطورية النمسوية - المجرية. فأحس كمال أنها خطوة خاطئة، لأنه لم يكن واثقاً من قدرة الألمان و حلفائهم على كسب الحرب. مع ذلك فقد حارب بإخلاص فى سبيل بلاده، فأحرز عام 1915 أنتصاراً رائعاً ضد البريطانين فى
" غاليبولى "، وفى سنتى 1916 و 1917 نجح فى صد التقدم الروسى شمالى تركيا، وفى سنة 1918 عمل المستحيل للحيلولة دون وقوع فلسطين فى أيدى القوات البريطانية. لكن جهود كمال لم تثمر، وفى سنة 1918 أجبرت تركيا على طلب الهدنة، وكان الثمن فقدان جزء كبير من أراضيها.
أحس كمال بأن شروط الصلح التى قبلها السلطان كانت قاسية، فرأى ان واجبه يقضى بمعارضتها. ولما أرسلته الحكومة إلى الأناضول، سنحت له الفرصة هناك لتنظيم معارضة صريحة للسلطان و لشروط الصلح. وقد بذلت محاولات لأستدعائه و أستدراجه، ولكنه أستقال من الجيش و أستولى على مدينة أنقرة حيث أستدعى عدداً من أعضاءالمجلس، فوافقوا على آرائه و أنتخبوه رئيساً لجمعية قومية جديدة.
فى هذا الوقت أنتهز اليونانيون الفرصة و هاجموا تركيا لأحتلال مناطق كبيرة من ساحل بحر ايجيه. ومن أجل مواجهة هذا الخطر تدفق الشعب التركى للأنضمام إلى كمال الذى عين قائداً عاما، لأن خبرته الحربية كانت ما تزال فى أذهان الأتراك وفى سنة 1922 ثم طرد اليونانيين من الأراضى التركية. و بمقتضى معاهدة لوزان أستردت تركيا قسماً كبيراً من الأراضى التى كانت ستتخلى عنها بموجب معاهدة الصلح السالفة. وفى عام 1923 أعلن قيام الجمهورية، وكان كمال أول رئيس لها.
ما ان أنتخب كمال رئيساً لتركيا حتى شرع فى أتمام عدد من الإصلاحات المهمة. ومان فى نيته تحويل تركيا من بلاد متخلفة عاجزة ( رجل أوروبا المريض ) إلى بلاد صناعية حديثة.
عمد أتاتورك إلى إزالة العديد من الملامح التقليدية، فأنهى حكم السلاطين بإعلان الجمهوورية، ومعهم زالت دولة الخلافة الإسلامية، وأنقضى عهد الحجاب وعصر الحريم، فحظر على المرأة وضع الحجابز ثم حلت الحروف اللاتينية مكان الحروف العربية، وطبق نظام عالمى للتعليم، و أنتقلت العاصمة من أسطنبول ( القسطنطية ) إلى أنقرة.
شجع أتاتورك الصناعة و التجارة، وأدخل وسائل زراعية جديدة إلى البلاد. لكن كمال نفسه الذى أعيد أنتخابه رئيساً للجمهورية ثلاث مرات لم يعيش ليرى ثمار إصلاحاته.
وعندما توفى عام 1938 ( لم يكن قد تجاوز الثمانية و الخمسين ) كانت تركيا قد خطت خطوات كبيرة خرجت بعدها من القرن التاسع عشر لتدخل القرن العشرين.