الفنان التشكيلي المغربي الراحل محمد المليحي (الصحافة المغربية)





يُعد الفنان التشكيلي المغربي محمد المليحي، الذي رحل قبل أسابيع قليلة بالعاصمة الفرنسية باريس، أحد أبرز الوجوه الفنية التي أسست مسار الفن التشكيلي داخل المغرب إلى جانب كل من فريد بلكاهية ومحمد شبعة وأحمد الشرقاوي، كلٌّ عمل بطريقته الخاصة على اجتراح لغة تشكيلية مغربية مُنفلتة من قبضة النموذج الغربي.
لقد مكنت دراسة المليحي في معاهد غربية من الوقوف عند أهم اللحظات العسيرة التي مرت منها الحضارة العربية الإسلامية، وأنتجت بذلك فنا يُضاهي الفن الغربي في جمالياته وآفاقه الفكرية، بحيث كان لعودة المليحي إلى المغرب واشتغاله بمدرسة الفنون الجميلة بمدينة الدارالبيضاء، إلى جانب فريد بلكاهية، تأثير كبير في أجيال تشكيلية بأكملها.
وتم لأول مرة في تاريخ التشكيل المغربي الرهانُ على التراث المغربي بوصفه قاطرة صوب حداثة تشكيلية، تبدأ من الجذور المغربية وتلتقي في أبعادها التاريخية والجمالية والفنية مع الحضارة العربية من خلال نماذج مختلفة من الفن الإسلامي عبر منمنمات وكتابات منقوشة ومعمار إسلامي.




ظلت أعمال محمد المليحي إلى حد بعيد أكثر تعبيرا عن الذاكرة الرمزية ومساربها الطفولية (وكالات)


وفي الوقت الذي لجأ فيه فريد بلكاهية إلى مواد محلية من جبص وحناء وزعفران ونحاس من أجل تجديد لغته الفنية وجعلها أقرب إلى عمل حرفي على مستوى المواد والقوالب والسند، راهن محمد المليحي على الخطوط الهندسية المتموّجة المتداخلة، التي تجد زخمها الفكري داخل الحضارة العربية الإسلامية وروحها.
لعب المليحي دورا كبيرا داخل جماعة الدار البيضاء في طرق أسئلة الهوية والأصالة والمعاصرة، وفي عصرنة التراث البصري المغربي وجعله مدخلا لتجاوز مفاهيم فنية استنفدت قدرتها على التأثير في مُتخيّل وراهن التشكيل المغربي ومفاهيمه الجديدة زمن السبعينيات، والتي بلورتها جماعة الدار البيضاء مع المليحي وبلكاهية وغيرهما من خلال الرجوع إلى التراث وجعله يشكل قاعدة أساسية ينبني عليها فعل تشكيلي يهجس بقضايا التراث والهوية، ولكن عبر أبعادٍ متشعبة لا تقيد نفسها داخل هذه الهوية، التي غدت متشابكة مع تراث الأخرى زمن العولمة.
لذا فإن الاهتمام بمفهوم الهوية لدى جماعة الدار البيضاء لم يأت اعتباطيا داخل الفن بقدر ما جاء نتيجة جدل فكري ألمّ بالفكر العربي المعاصر داخل بعض العواصم المشرقية، وحملته رياح الحداثة إلى المغرب، وتبلور أكثر داخل مجلة "أنفاس" (يديرها الكاتب والأديب عبد اللطيف اللعبي) من أجل إعداد جيل جديد مهتم بـ"مغربة" التراث البصري المغربي وجعله في قلب أعماله الفنية، عوض التركيز على تيارات ومدارس فنية غربية.
يأخذ مفهوم التراث عند محمد المليحي مفهوما إجرائيا في جعله أحيانا مجرد وسيلة تعبيرية، تتميز بها اللوحة عن نظيراتها داخل تجارب أخرى. فالتراث في هذه الحالة يتنزل منزلة حضور له دالة وجود عن انتماء إلى حضارة بعينها، وأحيانا يأخذ بعدا كيانيا يحتوي اللوحة ويكتسح معها كل العناصر الفنية عن طريق الأشكال الهندسية وتوليفات الألوان وتنوعها على جسد اللوحة. تغدو هذه الأخيرة لدى محمد المليحي وطنا مبتهجا، يرنو إليه مثل الطفل كلما ضاقت به سبل واقعه.
لهذا فإن المشاهد لمختلف أعماله منذ الستينيات يكاد لا يعثر على بعض ملامح الحضارة العربية في أشكالها الهندسية الواضحة، فهو يجعلها تختمر في عمق اللوحة، لا أن تطفح إلى سطحها حتى لا يعتبر عمله تدويرا لأعمال فنية إسلامية بامتياز.
هكذا جعل المليحي أعماله تنهل من عمق الحضارة العربية، لكن ليس على أساس سياق تاريخي أو أيديولوجي إبان الستينيات.
صحيح أن محمد المليحي كان طرفا رئيسيا في جدل تجديد التراث الفني داخل مجلة "أنفاس"، لكنه لم يترك هذا الجدل يأخذ ميسما أيديولوجيا، بحيث إن المنزع الفني هو الذي جعل المليحي يستمر في طرق باب الحداثة التشكيلية بالاستناد إلى التراث، مجددا لغته الفنية وتعبيراته الجمالية وموقفه الفكري تجاه عدد من قضايا الأصالة والهوية والحداثة وما بعد الحداثة داخل التشكيل المغربي.




معرض لأعمال الفنان التشكيلي المغربي محمد المليحي (الفرنسية)



سحر الذاكرة

من منظور آخر، ظلت أعمال محمد المليحي إلى حد بعيد أكثر تعبيرا عن الذاكرة الرمزية ومساربها الطفولية، وهو يهم إلى التقاط تفاصيل صغيرة لا مفر فيها من حياة المدينة وأزمنتها، جاعلا إياها تمتطي سيرة المرئي، وتتماهى بشكل ساحر مع حركة موج بحر مدينة أصيلة، الذي يكاد يسكن بهوس وفي صورة أزلية لوحات المليحي.
استعار المليحي إيقاع الموج باكرا لينسج علاقة خاصة ووجدانية مع طفولته البعيدة بأصيلة، إنه فنان يخيط الوجود في لوحة، ويجعله ينسرب من مسارب ذاكرته عبر إيقاع الموج وحركاته داخل المد والجزر، ويجعل من هذه الحركة الوجودية تحتل سطح اللوحة عن طريق الأشكال والألوان المنفتحة في تدرجها، والهائمة في تبصرها والنائية في طرائق تشكلها، عن أي تزويقية عمياء لا ترى اللون إلا بوصفه مكونا للوحة.
يصبح اللون عند المليحي بمثابة ضوء يتيم قادم من شغاف الروح، ينير كينونة الفنّان وعتمات ذاكرته، ويجعلها تئن وهي تستحضر عوالم مدينة لم تخف نضارتها في وجه الزمن، ولا في أعين الفنانين العالميين الذين وقفوا عند أعتاب تاريخها العصي على النّسيان وصورة تراثها الأثري الضارب في القدم.
فكيف إذن يمكن أن تختفي المدينة من حياة فنان مثل محمد المليحي، الذي استعار منها رحابة اللون وفتنة موجها الأزرق، ممارسا منذ طفولته السحر على العالم.