المقامةُ الماسونيةُ...
قالَ سالمُ بنُ سلَّامٍ:
كنتُ في بعضِ نواحي دارِ السلامِ، أتنزه مختلياً بنفسي عَنِ الأنامِ، إذْ مررتُ بدارٍ عامرٍ، وسط دربٍ ساترٍ، ورأيت أناسيَّ كثيراً، يدخلونَ إليهِ وهمْ يبتسمونَ سروراً، وكلُّهمْ يرتدي السوادَ، كأنَّهُمْ يشبهونَ الجرادَ، فقتلني الفضولُ، وبعضُ الفضولُ يُنيلُ أو ينولُ، ونظرتُ لثوبي الأسودَ كمثلِهِمْ، فأحببتُ أن أُشاركَهُمْ في فعلِهمْ، فقلتُ ونفسي: لأدخلَ لَعلَّني أجدُ بعضَ التأسِّي، والدعوةُ تبدو عامَّةً، والمسألةُ تبدو هامَّةً، فسرتُ في إثْرِهمْ، وأنا أُفتِّشُ بوجوهِهِمْ عنْ سرِّهمْْ، وتذكرتُ وقدِ إدَّكرتُ، بيتينِ لي، كانا عنديَ بغيةَ المتمثِّلِ:
"فتِّشْ عنِ الأسرارِ وسطَ خبائِها
وخذِ الخبابا من ذرى أحبارِها
وانظرْ لعاقبةِ الأُلى ضَنُّوا بِهِا
تلقَ الذي أخفوهُ في أسفارِها"
فدخلتُ فيمنْ دخلَ، فرأيتُ محفلاً قدِ اتَّصلَ، ووجدتُ قوماً يعكفونَ على أوراقٍ ، حسبتُها عندَهمْ من حرصِهمْ عليها رقيةً منْ راقٍ، ومشيتُ بينَهمْ متحيِّراً، متوجِّساً مستنفراً، فنظرَ إليَّ شيخٌ عجوزٌ كهلٌ، وجهُهُ كوجه البغلِ، أو هُوَ البغلُ، فتوجَّسَ مني خيفةً بدتْ عليهِ تستظلُّ، فصرخَ بصوتِهِ والصراخُ يعمُّ:
"يا معشرَ الأحرارِ غريبٌ أُمَمِيٌّ غوييمٌ فهلمُّوا هلمُّوا" فأحاطوني مثلَ الليلِ بالأنجمِ، أو إحاطةَ السوارِ بالمعصمِ، وأيقنتُ الهلاكَ، وإذا بصوتِ إمرأةٍ يقولُ وسطهمْ: "أغبيٌّ تُراكَ" وتقدَّمتْ نحوي رويداً رويداً فمنَعَتهمْ منْ ضربي، وأمسكَتْني من جنبي، وقالت لهمْ بغضبٍ كأنَّها همَّتْ بهمْ : "الذنبُ ذنبُكمْ أولاً وآخراً، أن فتحتمْ بابَ المحفلِ لا باطناً، بل ظاهراً، وهذا غوييمٌ أمميٌّ غرٌّ لا إخالُهُ ممَّنْ بقلبِهِ علينا وترٌ، بلْ أحسبُهُ (أحمقَ منْ باقلٍ) وأراهُ ممَّنْ ليسَ لَهُ في غبائِهِ من أماثلٍ، فدعُوهُ يجلسُ حيثُما جلسَ، وأبعدوا عنهُ الحرسَ" فهمهموا على كُرهٍ مُمِضِّ، وقلوبٍ قدِ إمتلأتْ ببغضي، ونظرتْ إليَّ وقالتْ: "أُصمتْ واسمعْ و عِ،
ولغيرِ الجهلِ والغباءِ لا تدَّعي" فأومأتُ شاكراً، وقد جهلتُ ماضياً من خوفي وحاضراً...
ثمَّ إنَّ المرأةَ إعتلتْ كرسيَّا، وحسبتُ أني إذْ أقبلوا عليها بوجوهِهِم، صرتُ نِسياً مَنسياً، والتفتُّ لمنْ جنبي فسألتُهُ بأدبٍ:
"منِ المرأةُ ياأخا العربِ؟" فتوجَّهَ نحوي بوجهِهِ المشرَّبِ بحمرة المرتاضِ، وملءُ عينِهِ ما تصنع الحمَّى بذي إنتفاضٍ، وقالَ وهو لا يكادُ أنْ يبينَ: "هذهِ زعيمةُ محفلِنا حاملةُ الرتبةِ الثالثةِ والثلاثينَ" وكانتْ حينَها تصولُ بخطبتِها على هؤلاءِ وتجولُ، فتقولُ حينَ تقولُ:
"ياأبناءَ حيرامَ آبي، أبناءَ الأرملةِ التي سِرُّ ابنِها في المخابي، اليومَ يومَكُمُ فشدُّوا العزمَ والنيَّةَ، ولا تتركوا الديارَ منْ حكمِكمْ بالسرِّ خليةً، أينَ محفلُ الشرقِ الأعظم؟ِ، أينَ دستورُ واقفِ الشرقِ المبهم؟ِ، أينَ الفرجالُ يغمدُ في الرقابِ؟ ، إنْ خاننا من نكثَ عهدَ عتيقِ الكتاب، أينَ منْ يدفنُ النَكوثَ بغيرِ تخوُّفٍ حيَّا؟ً، أينَ منْ يراقبُ المخالفَ والخائنَ محفلَنا في الليلِ الأظلمِ مليَّا؟ِ، يا معشرَ الفرمسونَ الماسونيِّينَ، ويا إخوتي أبناءَ الأرملةِ ناصري العبرانيِّينَ،
اسمعُوا وعُوا:
فلتنهضوا ماشاحكمْ دانٍ لكمْ
ملكُ اليهودِ يجئُ يبغي نصرَكمْ
لا تتركوهمْ دونَما مسِّ الأذى
وتِرُوا أعاديَكمْ يذوقوا وترَكمْ"
فهمهمَ القومُ كلُّهُمْ، وبانَ في وجوهِهِمْ غِلُّهُمْ، ونزلتِ المرأةُ نحوي، وجذبتني وهيَ خارجةٌ منْ حقوي، وقالتْ بابتسامةٍ غامضةٍ، وعيونُها من القلقِ الغريبِ وامضةٌ:
"لنسرعَ في الخروجِ، وما سوى الآنَ لنا من فروجِ، وإنمَّا أردتُ العبثَ، بمَنْ مِنَ الماسونيِّينَ ببغدادٍ لبثَ، فادَّعيتُ أني إمرأةٌ ينتظرونَها، ولكنَّهمْ بعلاماتِها لا يستبينونَها، وإنَّما أنا جلَّنارُكَ، وقدْ أجرتكَ قبلَ قليلٍ في الداخلِ بجواري، فامضِ بنا مسرِعَينِ كالجواري" ولمْ نشعرْ إلَّا بأصواتٍ خرجَتْ، وراءَنا في الطريقِ ولجَتْ، فركضنا في الطريقِ عدْواً، وتركنا المحفلَ رهواً...
...
...
الصورة من معرض السليمانية الدولي للكتاب/2020