رغم كتابتها في عام 2010، ورغم أنّها سردية من سرديات الهجرات اللبنانية، السرديات الكبرى إلى الولايات المتحدة الأمريكية منذ القرنين التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين فإنَّ رواية «أميركا» للروائي اللبنانيّ ربيع جابر رواية لها طابع السرديات التنبّئية لمسارات الأوبئة الكبرى التي أعادت رسم خارطة العالم من جديد! لن أقف عند تفاصيل هذه الرواية في مفاصلها السردية، ولكنني سأقف عند سرديات «الأوبئة» تلك التي جعل لها ربيع جابر ثلاثة فصول عنونها جميعها بـ«أخرجوا موتاكم!» في ذلك العنوان الصادم الذي يتكرر في الرواية ثلاث مرات، وفي كلِّ مرة يحصد فيها ذلك «الوباء الأسود» الملايين من الأرواح!
يتداخل خطاب السارد الشارح مع ذلك السرد المشهدي المرعب الخاص بتمثيلات الموت وهي تحاصر الجميع وتجتاحهم من دون أيّ إنذار. يقول السارد: «ماذا كانت الأنفلونزا الإسبانية؟ هذا الوباء الغامض اجتاح العالم في أعقاب الحرب العالميّة الأولى وقتل في القارات الخمس أثناء 1918 و1919 أضعاف ما قتلته الحرب الكبرى، بين عشرين مليونًا وأربعين مليونًا قُتلوا بهذا الوباء. إذا كان ذلك حقيقًيا فلماذا لا نجد عنه مئات الكتب في المكتبات؟ لا أحد يقدر أن يحصي المؤلفات المتعلقة بالحرب الكبرى. لماذا لا تتجاوز الكتب عن وباء الإنفلونزا الإسبانية -في المقابل- عدد أصابع اليد! (خمسة كتب؟ عشرة كتب؟ ماذا؟ ألوف الكتب تؤرِّخ الحرب العالمية الأولى!) لماذا طُرد هذا الوباء خارج الذاكرة البشرية؟ (لاحقًا، في نهاية القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين، سنتذكره، بسبب أوبئة أخرى: «إنفلونزا الطيور» مثلاً). لماذا إذا تذكره أحدنا بدا راويًا لقصة خيالية؟!». الكمامات.. التباعد الاجتماعي.. الحظر الكلي للتنقل... مشاعر العزلة والوقوف على تخوم الموت جميعها.. سرديات مشهدية مكثفة باختزال في هذه الرواية، وعلى الرغم من انتصار الحياة وتلاشي الوباء فإنَّ شخصيات الرواية جميعها تقف عند زمنين: زمن ما قبل الوباء وزمن ما بعده: تغيّرت المسارات والزمنان لا يتطابقان؛ فالزمن التالي يمحو بعمق مسار الزمن الأول إلى أن يجعله «ذاكرة تاريخية» بحتة يتجاوزها الزمن!
هل الروائي هذا الحكّاء الكبير يستطيع بحكيه أن يستشرف تاريخًا قادمًا للبشرية؟! هل هذا الروائي هذا الحكّاء الكبير يمارس بتبصيره السردي مسارات مستقبلية قادمة... «سرديات الأوبئة» ربَّما! وهل ذاكرة «الأوبئة وسردياتها الكبرى هي فقط «ذاكرة لحظية» تتداعى فقط عند حدوثها ثم تتلاشى لتُسترجع من جديد! لربّما كان المفكر الفرنسيّ بول ريكور يحتاج إلى إفراد مثل هذه الذاكرة في منجزه النقديّ الذي احتفى بالذاكرة والنسيان! «ذاكرة الأوبئة» التي طردتها الذاكرة البشرية تحتاج بالفعل إلى اشتغال نقدي وفلسفي فكري عميق يبحث في آليات هذا الطرد وتمثيلاته الثقافيّة الكبرى!
{ أستاذة السرديات والنقد الأدبيّ الحديث المساعد،