إخلاءٌ للمسؤولية: هذا المقال ليس مادةً مستساغة لأولئك الذين يرفضون أن يخطوا خارج منطقة راحتهم، إن كنت منهم، قد ترغب بصرف الدقائق التالية على مقالٍ آخر يناسب اهتماماتك.
أحتاج منك دقائق قليلة وعقلاً لا تمنعه جاذبية أن يطفو في عالم الاحتمالات. لا داعي للذعر، لن أتحدّث عن العوالم الموازية، على الأقل ليس اليوم، لكن عن خلود الإنسان وماذا سيحدث لو كان البشر خالدين ؟
تساؤلٌ راودني في طفولتي، هل نقع لأن الجاذبية لا مفرّ منها أم لأن أهلنا أخبرونا أننا سنقع، فصدّقنا؟ ولا زلت اليوم أتساءل هل حقّاً المسلمات والقوانين حقيقة واقعة لا محالة؟ أم أنّها نسبية وقد تختلف في ظروفٍ أخرى؟ ولما كنا نختلف بالكثير ونجتمع مسلّمين بأمرٍ واحد، الموت، فهل حقاً لا مفرّ منه؟ أم أن موت الذين سبقونا جعله من المسلمات؟ ألا يمكن للإنسان أن يصبح خالداً ؟
لا أتحدث عن خلود هوليوود، حيث يخترق البطل النيران ويقفز من أعلى البناء لينهض ويتابع مغامراته. أتحدث عن الخلود الذي يعني ألا يموت المرء من الشيخوخة، أن تكون أكبر المشاكل التي يواجهها في حال إصابة قلبه، أن يوصل فتى التوصيل القلب الجديد إلى عنوانٍ خاطئ. أتحدث عن أن يتمكن الجسم من تجديد الأنسجة التالفة ويستعيد نمو الطرف المبتور، ألاّ يكون للصلع وجود ولا خوف من فقدان سنٍ دائم فالآخر سيظهر بعد أيام.
هل خلود الإنسان مجرد خيال علمي ؟
ليس طرحي لهذا السؤال ردة فعل على مشاهدتي لفيلم السيد لا أحد (Mr. Nobody) ولا تمرّد على شعرة بيضاء وجدتها هذا الصباح، بل هو النتيجة الطبيعية لمعرفتي بمشاريع أصحاب المليارات وشركات التكنولوجيا الحيوية في وادي السيليكون التي تعمل على تطوير الأدوية للقضاء على الشيخوخة وإطالة العمر الصحي إلى أجلٍ غير مسمى. فإن كان التلاعب بالوراثة وتقليل تناول السعرات الحرارية قد أثبت بالفعل أنه يطيل عمر الذباب والديدان والفئران، فلماذا لا يمكن أن ينجح ذلك مع البشر؟ وإن توقفت الآن مدوّراً عينيك لتقول: يطيل لا يعني الخلود، فدعني أذكرّك أن مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة وأنّ 31 عاماً تبدو للأبد عندما تعيشها قطة بينما كان متوسط أعمار القطط 7 سنوات.
ما الذي يعنيه أن يكون البشر خالدين ؟
أدرك ما تعنيه كلمة خلود الإنسان وإن كنت لا زلت تتحرج منها بإمكانك في كل مرة تقرأها فيها أن تستبدلها بمفهوم إطالة العمر أو بمعنى أجلٍ غير مسمّى، لكن ما الذي يعنيه حقّاً أن تكون خالداً؟ بدايةً، يعني أنّه لديك وقت غير محدود، يمكنك قضاء المزيد من الوقت مع أحبائك، يمكنك تعلّم العزف على آلات موسيقية كثيرة مختلفة، إنّ اختيار فرع الجامعة الذي تريد الالتحاق به لن يعود بذي أهمية، فببساطة لو اكتشفت أنّك لا تحبه يمكنك تركه والبدء بفرعٍ جديد ويمكنك السفر حول العالم بأسره غير عابئٍ بالتكاليف ولا المستقبل، فلديك الكثير الكثير من الوقت لتؤسس لمستقبلك البعيد لاحقاً، أليست هذه الأفكار الوردية هي أول ما يحضر في مخيلتك عند طرح مفهوم الخلود ؟
إن علمتني الحياة شيئاً واحداً فهو أنّها لا ترسم بلونٍ واحد وأنّ الكون لا يبدو جميلاً بالوردي إلا في عالم باربي. دعنا نغوص في خيالنا أعمق من هذا ونفكر في النتائج المترتبة على خلود الإنسان ؟
أثر خلود الإنسان على صعيد الكوكب
هل سيكون كوكبنا قادراً على التعامل مع البشر الخالدين، مع مجموعة من الناس تتزايد أعمارهم باستمرار ولا يموتون ؟
ماذا عن المساحة ؟
في زمننا الحالي، وبينما الموت جزءٌ من سنة الكون والطبيعة تقوم بين الفترة الأخرى بجردٍ وتخفيضٍ لأعداد البشرية عن طريق الأوبئة، الأعاصير، البراكين والزلازل، بلغ عددنا -نحن البشر الفانين- حوالي 8 مليار نسمة ونشكو من ازدحام المكان. ماذا لو لم تنجح الطبيعة بعمليات التخفيض تلك؟ ماذا لو تكاثرنا وتكاثرنا حتى بدأت البشر تتساقط من أطراف الكرة الأرضية، أدرك أنّ الجاذبية ستحول دون ذلك ولكن ما أعنيه ماذا لو لم تعد الأرض تتسع لنا؟ سيضطر إيلون ماسك لإيجاد حل وشحن الفائض منا لكواكب أخرى. وسنصل إلى اللحظة التي يجب أن نتوقف فيها عن الإنتاج، وفي يومٍ ما سنكون بلا أطفال جميعنا من نفس الفئة العمرية من جيل الشباب ولا نموت. وداعاً بامبرز!
ماذا عن الغذاء ؟
هل سنتكاثر حتى نأكل بعضنا؟ بالطبع لا، هل تعتقد حقاً أن الذي وجد دواءً للموت لن يجد حلاًّ للغذاء؟! قد يصنعوا اللّحم في المصانع ويستغلّوا مساحات المحيطات والصحاري والأراضي القاحلة بزراعة محاصيل جديدة أو يطلبوا الإغاثة من النازحين إلى كواكب أخرى، لكن كلّ ما أرجوه ألّا يحولوا الطّعام إلى كبسولات. فعندما تبلغ من العمر 567 عاماً، قد يكون أقصى ما تتطلع إليه هو قطعة حلوى.
ماذا عن الماء ؟
بعد أن حلّ مهندسو التكنولوجيا الحيوية مسألة الخلود، لابدّ أن يجدوا حلّاً لمشكلة نقص المياه. فهؤلاء وجودهم قائمٌ على حلّ المشاكل. وإن لم يكرّروا المياه أو يحلّوا مياه المحيطات، سيستبدلونها بأخرى مصنّعة معملياً لأنّهم لن يحتملوا أن يموت الإنسان الذي لا تقتله الشيخوخة من العطش.
أثر خلود الإنسان على الوظائف
ماذا عن اختصاصات الطب ؟
ما الذي سيقوم به الأطباء إن توقف الداء؟ فالخلايا المريضة تتجدد والعضو الذي يتعرّض لحادث نستطيع استبداله ببساطة. فهل ستندثر مهنة الطب وتحل أخرى مكانها؟ أم أنّهم سيتجهون جميعاً نحو الطب النفسي؟ لا بدّ أن أولئك الذين يعيشون مئات السنين لديهم الكثير ليشاركوه مع طبيبهم النفسي.
ماذا عن الوظائف الأخرى ؟
لن يموت أحد، لن يتقاعد أحد لأن عقود الزمن القادمة قد تصبح مملة بلا عمل، ومن المؤكد لن تستمر الحكومات بدفع معاشات التقاعد عند الخامسة والستين، فلماذا تدفع لمئات من السنين وربما الآلاف لقاء عملٍ استمر 40 عاماً على الأكثر ؟
لن يجد الجيل الجديد وظائف، لأنّك ستجد العديد العديد من الموظفين المهرة الذين أمضوا مئات السنين في وظيفة ما إلى أن أتقنوها. ربما يكون الحل في إرسال هؤلاء العاطلين عن العمل إلى الكواكب المأهولة مؤخراً مع بعثة من أولئك المهرة ليمهدوا لهم الطريق. أو ربما يخترعون مجالات جديدة مدفوعين بحاجتهم للعمل. وربما يتقنوها ثم يبدلون مجالاتهم بشكلٍ دوري فمن ذا الذي يرغب في شغل الوظيفة نفسها للأبد ؟!
أثر خلود الإنسان على صعيد المجتمع
ماذا عن الزواج ؟
على الرغم من أنّ كلمة للأبد التي يتعهّد بها الناس عند الزواج لا تعني للأبد فعلاً وغالباً ما تساوي على الأكثر 60 عاماً، تغص بها الحناجر في كثيرٍ من مراسم الزفاف أو بعده. فتخيّل عندما تعني للأبد للأبد فعلاً. أن تعيش كل يومٍ من حياتك الأبدية مع شخصٍ واحد! والمصيبة أن الأمل بأن ينتهي هذا بأحدكما يرتدي السواد مستحيل. لذلك، قد يبدو وضع فترة صلاحية على عقود الزواج أمراً منطقيّاً، كأن تقول: أتعهّد أن أمضي أعوامي الستين القادمة معك، في السراء والضرّاء شريطة أن يقدّم كلٌ منّا للآخر قائمة بعشر مرشحين ليشغلوا الشاغر الذي سيخلفه وراءه عند فض العقد.
ماذا عن الزواج أيضاً ؟
بفرض أن الإنسان الخالد تزوج 10 مرات في 1000 سنة ولا بدّ أن علاج الشيخوخة سيطيل من فترة الخصوبة أو قد يجعلها غير محدودة، فإنه سينتج عن كلٍ من هذه الزيجات عدداً لا بأس منه من الأولاد. وعلى الرغم أنّ هذه الأعداد الهائلة من البشر الناتجة من الزيجات المتعددة قد توحي للشخص أن هنالك الكثير من الأسماك في المحيط، إلا أنّ الكثير من هذه الأسماك سيكونون أشقاءه أو أقاربه. قد يصبح من الضروري عندها أن يتم إيجاد تطبيقات تتّبع شجرة العائلة. تقابل إحداهن، تعجب بها، تسألها عن بياناتها، تدخل البيانات إلى التطبيق وياللمفاجأة! إنها ابنة جدّتك من زوجها السابع أي نصف خالتك، ترسل تحيّاتك لجدتك وتعود دون أضرار لاعناً الخلود.
ماذا عن العلاقة بين الآباء والأبناء ؟
هل تدرك معنى أن يكون والدك خالداً؟ يعني الأمر أنّه قد يكون أنجبك وعمره 600 عام. في زماننا هذا، الأشخاص الذين ينجبون أولادهم في سنٍ متأخرة، يشعرون باختلاف الأجيال الكبير مع أولادهم، في حين أنّ الفارق بينهم لا يتعدى الأربعين عاماً، ماذا عن 600 عام إذاً؟ هل تستطيع العلاقات الأسرية أن تصمد في ظل الخلود؟ لا أعتقد ذلك.
أثر الخلود على الإنسان نفسه
على صعيد العقل ؟
كل الدراسات والمحاولات التي قامت، قامت على تجديد الجسد، عكس تأثير الشيخوخة على الجسد، لكن ماذا عن العقل؟ هل نستطيع أن نتجاوز مظاهر الشيخوخة المتعلقة بالعقل؟ هل تعالج تلك التقنيات مرض ألزهايمر؟ وإن عالجتها وتجاوزناها، فهل تستوعب ذاكراتنا تلك الحياة الطويلة المليئة بالأحداث؟ حتى الذاكرة الفتية تواجه مشكلة في استعادة المعلومات عندما تغرقها بفائضٍ منها، فماذا عن ذاكرة عملت في تخزين المعلومات لمئات السنين؟ هل تستطيع استعادة الذكريات المهمة التي تعطي الحياة قيمتها؟ ماذا عن القدرة على تتبّع أخبار الأشخاص المهمين في حياتنا؟ ألم تكن هذه الإيجابية الأولى من الحياة الطويلة، قضاء المزيد من الوقت مع من نحب؟
على صعيد النفس ؟
قد يكون من الجميل ألا تهتم لدقّات الساعة، وأن تشعر أنّ بإمكانك التمهّل قدر المستطاع فلا وقت يركض ولا فرصة تفوتك، لكن ماذا عن قيمة اليوم؟ ماذا عن فقدان الحافز والدافع؟ جميعنا نعرف أن المهام غير المحددة المهلة تشغل من الوقت أضعاف ما تحتاج. وإن كانت كثير من أيام الثمانين عاماً التي من المتوقع أن نحياها الآن تبدو رتيبة مملة فماذا عن ذلك العمر غير المحدود؟ ماذا عن الأيام المتلاحقة المتشابهة التي لا تنتهي فعلياً وليس مجرد إحساس يخالجك؟ ألن يقتل الملل ما أنقذه العلم؟ هل يصبح الشباب لعنة عندها ؟
اعذرني إن أطلت عليك الحديث، غير أنّ فكرةً كهذه تتطلّب أبحاثاً ودراساتٍ طويلة ومن المؤكد أنّ مقالاً كهذا لن يغطي الاحتمالات جميعاً. الآن، اسمح لي أن أسألك إذا تمكّن العلماء من صنع حبة تسمح لك بالعيش إلى الأبد مع بقائك خالياً من الأمراض وعلامات الشيخوخة، فهل ستأخذها؟ ولماذا؟
رشا حسحس - أراجيك