شهد الطب الإسلامي في العصر الأيوبي نهضة كبيرة، حيث سعى الأيوبيون إلى بناء وإنشاء المستشفيات في كافة المدن، وذلك لعلاج المرضى واستقبالهم، وللدراسة العملية والنظرية لعلوم الطب وغير ذلك، وقد ورث الأيوبيون مِن أسلافهم الزنكيين بِنية تحتيّة طبية وتعليمية قوية للغاية في كامل بلاد الشام، فضلًا عن تخريج دفعات من أهم وألمع أطباء ذلك العصر، ومن هؤلاء نجم الدين ابن المنفاخ، وقيل: ابن النفّاخ، وهو سليل أسرة علمية ودينية على درجة كبيرة من الشهرة والمكانة في دمشق أثناء القرنين السادس والسابع الهجريين.
نسب نجم الدين بن المنفاخ ومولده ونشأته
هو الحكيم العالم الفاضل أبو العباس أحمد بن أبي الفضل أسعد بن حلوان ويعرف بابن العالمة، طبيب دمشقي أديب، من الوزراء، كان أسمر اللون نحيف البدن حاد الذهن مفرط الذكاء فصيح اللسان كثير البراعة لا يجاريه أحد في البحث ولا يلحقه في الجدل، اشتغل بصناعة الطب حتى أتقنها، وكان متميزًا في العلوم الحكمية قويًا في علم المنطق مليح التصنيف جيد التأليف، وكان فاضلًا في العلوم الأدبية ويترسل ويشعر، وله معرفة بالعود حسن الخط.
وُلد نجم الدين بن المنفاخ في مدينة دمشق سنة 593هـ= 1197م لأبوين عالمين، فوالده الطبيب الحكيم أبو الفضل أسعد بن حلوان الذي تعود أصوله إلى مدينة المزّة الدمشقية، وكان من مشاهير أطباء دمشق، حتى إنه كان من جملة الأطباء المخصوصين بالملك الأيوبي الأشرف موسى بن العادل أبي بكر بن أيوب.
أما والدة نجم الدين فقد عُرفت في الأوساط الدمشقية بالعالمة، لأنها كانت عالمة دمشق، فقد برعت في علوم العربية والحديث والقرآن والتفسير، وكانت تُعرف ببنت دَهين اللوز أو دُهن اللوز، وترجم لها بعض العلماء في عصرها، فوصفها العلامة الذهبي بـ "العالِمة، شيخة العلماء بدمشق، وكانت لها حظوة.
نجم الدين بن المنفاخ.. ومهارته في الطب
كان ابن المنفاخ محظوظًا في بيته وبيئته الغنية، والتي نشأ ناهلًا من علمها العقلي والنقلي والأخلاقي، والطبي والفكري والديني؛ لذا كان متميزًا في الطب، كما كان متميزًا في علوم العربية واللغة والأدب والشعر، بل والموسيقى والخطّ، وسرعان ما اشتهر بين أقرانه وبين الأوساط الحاكمة من الأسرة الأيوبية التي كان يحكم أمراؤها وملوكها وسلاطينها مصر والشام وجنوب الأناضول، فاستدعاه الملك المسعود ملك منطقة آمد القريبة من مدينة ديار بكر بجنوب تركيا اليوم، وعيّنه طبيبه الخاص، بل ارتقى في مقامه وصُحبته حتى قرّر تعيينه وزير مملكته، لكن بعد ذلك غضب عليه الملك المسعود الأيوبي، وأمر بتجريده من مزاياه المالية وطرده من مملكته، فعاد ابن المنفاخ إلى دمشق حيث نشأ وشبّ.
وفي دمشق بزغ نجمه العلمي والطبي، وشرع في تأليف عدد من المصنفات الطبية مثل "هتك الأستار في تمويه الدخوار"، و"شرح أحاديث نبوية تتعلق بالطب"، و"المهملات في كتاب الكليات"، وكتاب "المدخل إلى الطب"، وكتاب "العلل والأعراض"، بل إنه كتب في علم الصيدلة أيضًا، وكانت الصيدلة آنذاك تقوم على تحضير الأدوية المفردة والمركبة من عناصر الطبيعة ومزجها ببعضها بمعايير دقيقة، فكتب في ذلك كتاب "الإشارات المرشدة فِي الأدوية المفردة".
وفاة نجم الدين بن المنفاخ
بسبب الشهرة والمكانة في مجال الطب والأدوية والعلاج والتأليف، استدعى الملك الأشرف بن الملك المنصور الأيوبي نجم الدين بن المنفاخ في مملكة حمص ليكون طبيبه الخاص، وهذا يدلّ على عظم مكانته، ووفور حرمته، وعلمه الواسع، ونفوذه العلمي والسياسي الكبير الذي جعله إحدى ألمع الشخصيات في القصور الأيوبية في دمشق وآمد وحمص وغيرها من بلاد الشام، وبسبب هذه الحدّة فضلًا عن النفوذ والمكانة كثر أعداؤه، فلم يسلم من الحُسّاد والحاقدين، ويبدو أن بعضهم قرّر التخلص منه، يقول ابن أبي أصيبعة: "حكى لي أخوه لأمه القاضي شهاب الدين بن العالمة أنه توفّي مسمومًا"، وذلك في سنة 652هـ= 1254م، وهكذا، وعن عُمر ناهز التاسعة والخمسين، تنتهي رحلة ابن المنفاخ الدمشقي في مجالَيْ الطب والسياسة[1].
قصة الإسلام
[1] ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء في طبقات الأطباء، تحقيق: الدكتور نزار رضا، دار مكتبة الحياة، بيروت، ص757، 758، والذهبي: تاريخ الإسلام، تحقيق: بشار عوّاد معروف، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى، 2003م، 13/ 405، وحاجي خليفة: سلم الوصول إلى طبقات الفحول، تحقيق: محمود عبد القادر الأرناؤوط: مكتبة إرسيكا، إستانبول، تركيا، 2010م، 1/ 126، 127، والزركلي: الأعلام، دار العلم للملايين، الطبعة الخامسة عشر، 2002 م، 1/ 96