بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركااته
البشر يَحْكمون حسب أهوائهم، ولا يُنْصفون أو يرحمون، فلا يتعاملون بالعدل ولا بالرَّحمة، إلاَّ لمن نال رضاهم، ومتى غضب أحَدُهم نُزِعَت من قلبه الرحمة، ورُفِع العدل منه، فهو يجور في حُكْمِه، وينهال على مغاضبه تجريحًا وتقريعًا، بل قد يسومه سوء العذاب.
وَعَيْنُ الرِّضَا عَنْ كُلِّ عَيْبٍ كَلِيلَةٌ
وَلَكِنَّ عَيْنَ السُّخْطِ تُبْدِي الْمَسَاوِيَا
فكَم من المرات تغافلنا وتغاضينا عن أخطاء مَن نودُّهم ونحبُّهم ونحابيهم! ولكن ما أن نغضب أو نسخط عليهم حتى نجلدهم بألسنتنا، ولا نَرْقُب فيهم إلاًّ[1] ولا ذِمَّة، ولو كانوا أقرب الناس إلينا، بل ونتذكَّر لهم كُلَّ صغيرة وكبيرة، ولو مضت عليها سنين طوال لاجْتَرينا الذِّكريات؛ لِنذكرَهم بمساوئهم الفائتة، والتي تجاهلناها في وقت رِضَانا.
إنَّنا لا نُجامِل إلاَّ في ساعة الرِّضا، وتُغادرنا كلُّ تلك الكلمات الطيِّبة وتتلاشى عند السخط، وتتحوَّل ألسنتنا من الذَّود عمَّن كُنَّا نحب رد غيبته، إلى المبادرة بغيبته وذَمِّه وذِكْرِه بما يكره، ولربما نسبنا إليه ما ليس فيه!
لماذا يَحكم كثيرٌ من البشر على غيرهم بحسب حالتهم المزاجيَّة وظروفهم النفسية، فيَظْلِمهم ويُشْطِطُ في الحكم عليهم، بل ويأنس بالحديث عن عيوبهم؟!
وأول الظلم في الأمر أننا نعطي لأنفسنا الحَقَّ في الحُكْم على الناس، دون أن يُعطينا أحدٌ ذلك الحقَّ، فندع النظر في أحوالنا والانشغال بما في أنفسنا من عيوب، وننشغل بتتبُّع عيوب وسَوْءات الآخَرين.
أصبحت أعينُنا تمارس دَوْر الرَّاصد المُراقِب المُتَفحِّص، فنضع الناس تحت المجهر، ونسلِّط أعيننا عليهم، ونضع لكل حركة أو سكنة تفسيرًا أو معنى، فذلك منافق، وذلك مُراءٍ، وفلان يقصد كذا، والآخَر فعل كذا لأنه كذا... والكثير من التعليقات والصِّفات نُوَزِّعها على الناس تطوُّعًا واجتهادًا، دون أن يُطلَب منَّا ذلك، نصَّبْنا أنفسنا منصب الرقيب العتيد، والله تعالى لم يوكل إلينا ذلك، بل وأمَرَنا بإصلاح أنفسنا وترك الانشغال بمراقبة الناس ونقْدِهم.
فالواجب أن يشتغل المرء بما يعنيه، فيحفظ لسانه عن تَصَيُّدِ الأخطاء، ويدع الخَلْق للخالق.
قال - صلَّى الله عليه وآله وسلَّم -: ((يا معشر مَن آمن بلسانه، ولم يَدْخل الإيمانُ في قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتَّبعوا عوراتهِم؛ فإنه من اتَّبع عوراتهم يتَّبع الله عورته، ومن يتَّبِع الله عورته يفضَحْه في بيته)).
.
1- ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ﴾.
2- الإمام علي عليه السلام: "الهماز مذموم مجروح".
3- الإمام علي عليه السلام: "تتبع العيوب من أقبح العيوب وشر السيئات".
4- الإمام علي عليه السلام: "تأمل العيب عيب".
5- رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من كشف عورة أخيه المسلم كشف الله عورته حتى يفضحه بها في بيته".
6- الإمام علي عليه السلام: "من تتبع عورات الناس كشف الله عورته".
7- رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تتبعوا عورات المؤمنين، فإنه من تتبع عورات المؤمنين تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه ولو في جوف بيته".
8- الإمام علي عليه السلام: "إياك ومعاشرة متتبعي عيوب الناس، فإنه لم يسلم مصاحبهم منهم".
وجد عقوبة ما قاله "في نفسه" حرمانًا من الطاعة، فما أكثر ما حُرِمناه بأقوالنا وأحكامنا الصادرة على الناس جزافًا دون توَرُّع عن ملاحقة عيوبهِم ومساوئهم، وكأننا قد كملت صفاتُنا وأنفسنا وتنزَّهنا عن العيوب.
والنفس النَّزيهة حقًّا هي تلك التي ترفَّعَت عن ملاحقة الناس، وانشغلتْ بتهذيب ذاتها.
هي تلك التي تمَكَّن منها الإيمان، واستشعَرَت مراقبة الله لها، وأنَّها مسؤولة يومًا عمَّا ستقول، فترَفَّعَت وتزكَّت عن فضول الكلام وعن الجَوْر في الأحكام في الرِّضا والسخط، فلا تتكلم إلاَّ صدقًا، ولا تقول إلاَّ حقًّا.
فتعدل؛ لأن الله تعالى ﴿ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ﴾ [النحل: 90].
وتعفو؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿ خُذِ الْعَفْوَ ﴾ [الأعراف: 199].
فتتناسى وتسامِح، وتؤْثِر انتصارات الحقِّ في الآخرة على انتصارات النفس في الدنيا.
تلك هي النُّفوس النَّزيهة الزَّكية، التي شعارها قول الله تعالى: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ﴾ [الأعلى: 1
اعتنوا ببعضكم وبأحبابكم، فليس كل ما ذهب يعود.
إذا جاء موعد الرحيل، فلن يودعك من تُحب، لأنه يغادر بغتة.
لا تؤخر إسعاد من تحب، ولا تؤجل التواصل مع من يحبك، فلا أنت ولا هو تعلمان متى آخر لقاء، ولا آخر مكالمة!
تقبّل اعتذار الآخرين، وخصوصا من يحبك، والتمس لهم ألف عذر وعذر، فليس كل ما كُسر يمكن أن يُجبر، وليس كل ندمٍ يعيد ما فَسَد!
دع الخلق للخالق، واعف واصفح وارحم، وطهّر قلبك من سواد الحقد والحسد، فما بينك وبين الموت سوى ساعة الأجل.