منذ عام 1925، تقبع مومياء مصرية قديمة صغيرة الحجم لطائر الصقر في متحف ماديستون بإنجلترا. مؤخرًا، قرر فريق من الباحثين إخضاع هذه المومياء للدراسة عبر الفحص باستخدام الأشعة المقطعية الدقيقة Micro-CT scans، وكانت المفاجأة أنها ليست مومياءً لصقر، بل لجنين يُقدَّر عمره بين 23 إلى 25 أسبوعًا يبدو مشوهًا معدوم الدماغ، وهي حالة نادرة، تسمى anencephaly، فيها يفشل الدماغ في النمو بشكل صحيح.
مصادفة غير متوقعة
يقول الدكتور "أندرو نيلسون"، أستاذ بيولوجيا الآثار بجامعة ويسترن، ورئيس فرق البحث، في تصريحات خاصة لـ"للعلم": "إن الكشف عن حقيقة هذه المومياء جاء بالصدفة".
وكان متحف ماديستون قد قرر في عام 2016 إعادة تقييم محتويات قسم المصريات، وبالكشف على هذه المومياء بالأشعة المقطعية، تشككوا في كونها لصقر؛ نظرًا لأن الأشعة أظهرت ما يشبه اليدين والقدمين البشريتين.
لجأ الفريق البحثي إلى "الأشعة المقطعية متناهية الدقة"؛ إذ تسمح بالحصول على صور 10 مرات أفضل، ومن جميع الزوايا.
ووفقًا للدراسة فإن الكارتوناج cartonnage الموجود حول المومياء هو السبب في اعتقاد العلماء في السابق بأنها لطائر؛ إذ يبدو الجزء العلوي منه أقرب للصقر.
وكان قدماء المصريين يضعون الكارتوناج حول المومياء للحفاظ عليها من التلف. ويتكون الكارتوناج من عدة طبقات من اللفائف من الكتان أو البردي، وتُغطَّى بالجبس المزخرف. ولم تكن تقنيات الكشف والتصوير والتحليل للمومياوات متقدمةً بالقدر الكافي، في مطلع القرن العشرين، بحيث تسمح بدراسة مفصلة لها.
قام نيلسون وفريقه بإجراء الأشعة دون فك الكارتوناج، كما استعان بـ12 عالمًا من مختلِف التخصصات مثل التشريح والمصريات والأشعة التشخيصية والمسالك البولية، لتكوين فريق متكامل لدراسة الصور.
يعلق نيلسون على الأمر قائلًا: "بالتأكيد كانت لحظة مَأسَوية بالنسبة للعائلة أن تفقد رضيعها المرتقب وتستقبل جنينًا يبدو غريبًا جدًّا وليس طبيعيًّا".
لماذا جرى تحنيطه؟
على الرغم من أن العلماء لا يعرفون أين كان العثور على هذه المومياء داخل مصر، لكن الثابت أنها ترجع لأكثر من 210 سنوات قبل الميلاد، وأنه جرى إهداؤها للمتحف بواسطة طبيب مصري، عام 1925.
ووفقًا لــ"نيلسون" فإن الجنين تم تحنيطه بعناية، بالإضافة إلى ذلك تظهر صورة على الكارتوناج تمثل الإله أوزوريس، إله البعث والحساب في مصر القديمة، مستلقيًا على إطار التابوت مع الإلهتين إيزيس ونفتيس اللتين تقفان فوقه، مضيفًا أن "طائرًا برأس إنسان يَظهر محلقًا فوق أوزوريس، وفوقهم عين "أوجات" التي تُعَد "رمزًا للحماية والصحة الجيدة".
ويرى نيلسون أن تحنيط هذا الجنين الذي وُلد ميتًا يثير العديد من التساؤلات؛ إذ إن الأجنة فى مصر القديمة لم تكن تحنط إلا إذا عُدَّت "تعويذة".
ويذهب الخبراء إلى أن ولادة طفل ميت قبل موعده وشكله غير طبيعي جعله حالة فريدة في نظر عائلته، خاصةً في ظل المعتقدات التي كانت سائدةً في هذا الوقت، ومن ثَم جرى تحنيطه.
ويُرْجِع نيلسون سبب تحنيط هذه المومياء إلى اعتقاد المصريين القدماء، في ذلك الوقت، أن لديها "قوةً" ما؛ لأنها كانت جنينًا، مضيفًا أن "اقتراح أن يكون الجنين لديه قوة يأتي من بردية تعود إلى العصر الروماني، يشكو فيها أحد المزارعين أن شخصًا كان يسرق منه الحبوب، لذا استخدم جنينًا لإيقافه عن السرقة"، وفقًا للأسطورة.
لا.. ليست لقرد
وتقول "سحر سليم" -أستاذ الأشعة التشخيصية بكلية طب القصر العيني والمتخصصة في الأشعة على الآثار، والأستاذ الزائر بقسم الآثار بجامعة ويسترن، والباحثة المشاركة بالدراسة-: إن هذا الجنين المحنط يُظهر تشوهًا خلقيًّا شديدًا، يتمثل في عدم وجود جزء كبير من الدماغ أو الجمجمة أو فروة الرأس (الجلد المغطى للجمجمة) التي تتكون في أثناء الطور الجنيني، وهو مرض رأسي ناتج عن عيب في تكوين الأنبوب العصبي. تضيف سليم أن هذه المومياء تُعَد ثاني حالة لمومياء بالتشوه ذاته، إذ اكتُشفت الأولى سنة 1826.
ويتسبب هذا التشوه في عدم اكتمال نمو المخ والدماغ بصورة سليمة، وهو تشوُّه نادر لا يصيب إلا 1 بالمئة فقط من الأجنة في العالم، وقد كشفت الأشعة المقطعية للمومياء محل الدراسة، غيابًا تامًّا للجزء العلوي من الجمجمة والمخ، وعيوبًا في العمود الفقري، كما أظهرت أن الأذن موجودة خلف الرأس، كما هو الحال مع الأجنة البشرية.
وتوضح سليم أن الأدلة كانت واضحة جدًّا على أن المومياء لجنين بشري، على عكس ما قدمه بعض العلماء سابقًا، من أنه جنين لقرد؛ وذلك لعدم وجود ذيل، خاصةً وأن الصفات التشريحية للأجنة البشرية مختلفة عن القرود، كشكل الحوض ونِسَب اليدين للأرجل.
ووفقًا لـ"سليم" فإن هناك عددًا محدودًا من الأجنة التي وُجدت محنطة، وأشهرها مومياوات بنتَي توت عنخ آمون، اللتان وُجدتا محنطتين على أعلى مستوى من الإتقان، وهو المستوى الملكي في التحنيط؛ إذ جرى وضع حشوات تحت الجلد لشده وإظهاره وكأنه لا يزال حيًّا، وذلك لاعتقادهم في البعث والخلود.
وتؤكد أن تحنيط هذه المومياء الجنين، إنما يعكس اهتمام الحضارة المصرية القديمة بالإنسان في جميع أطواره، حتى لو كان جنينًا غير مكتمل أو من دون رأس، فهي حضارة تقدر الإنسان.
وتضيف أن الدليل على ذلك هو العثور على مقابر بمدينة كيليس الأثرية بواحة الخارجة بالوادي الجديد وفيها الكثير من هياكل عظمية لأجنة مدفونة في المقابر ذاتها مع ذويهم.
التاريخ المَرَضي للأم
لم يكتفِ فريق نيلسون بدراسة المومياء، بل درسوا كذلك التاريخ المرضي للأم، التي كانت تعاني نقصًا في حمض الفوليك وفيتامين ب 9 الذي يسبب هذا التشوه.
ووفق الدراسة، فإنه يمكن تقليل احتمالية أن يُصاب الجنين بهذا التشوه إذا حرصت النساء في سن الإنجاب على تناول 0.4 ملليجرام من حمض الفوليك يوميًّا، وبهذا فقد أعطى نيلسون وفريقه مؤشرات عن النظام الغذائي لأم المومياء المحنطة، والتي يبدو أنها لم تكن تتناول ما يكفي من الخضراوات، المصدر الرئيسي لحمض الفوليك.
يقول الأثري "أحمد صالح"، المتخصص في دراسة المومياوات، والرئيس السابق لمتحف التحنيط
بالأقصر: إن التقنيات المتقدمة والأشعة التشخيصية المقطعية، سواء العادية والدقيقة، ساعدت على الكشف عن الكثير من أسرار الحضارة المصرية القديمة، إذ أزاحت هذه التقنيات الستار عن الحالة الصحية وطريقة موت توت عنخ آمون، وكذلك حلت لغز موت الملك رمسيس الثالث، أشهر حكام الأسرة العشرين؛ إذ أوضحت الأشعة أنه جرى اغتياله على يد أكثر من مُعتَدٍ وبأسلحة مختلفة، وأنه لم يمت مسمومًا كما كان يُعتقَد من قبل.
وعن تحنيط الأجنة عند قدماء المصريين، يقول صالح إن الجنين يمثل لديهم النقاء، وهو أشبه بالإله، لذلك حرصوا على دفنه وتكريمه.
ويضيف: "كوننا لم نعثر على عدد كبير من الأجنة المحنطة لا يعني أنه لا توجد أجنة محنطة"، مضيفًا أنه جرى العثور على العديد من الأجنة المدفونة في المقابر مع ذويهم.