بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركااته
قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ}. صدق الله العظيم.
تميّز ومعاناة
وقد تميّز الإمام الحسن العسكريّ (ع) ككلّ أئمة أهل البيت(ع)، بالعلم والحلم والعبادة وحسن الخلق والتّواضع والبذل والعطاء، وهذا ما أكسبه موقعاً، وجعله مهوى أفئدة كلّ الذين عاشوا معه، ممن كانوا يوالونه، وحتى ممن كانوا يكنّون له العداوة.
وقد أدّى هذا الموقع الذي بلغه في قلوب النّاس، إلى أن يخشاه الخلفاء العباسيّون الذين تعاقبوا في عصره، حيث كانوا يرونه ندّاً لهم، وكاشفاً لعيوبهم ونقائصهم، وما زاد من خشيتهم منه، تضافر الرّوايات التي وردت عن رسول الله(ص) وأهل البيت(ع)، بأنّ الإمام المهديّ (عج) الذي يخرج ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً هو من ولده.
ولذلك، عانى الإمام في الفترة القصيرة من إمامته الّتي لم تستمرّ أكثر من ستّ سنوات، من السّجن والحصار، وقد بلغ من التّضييق أنه أرسل إلى شيعته: "ألا لا يسلّمنّ عليّ أحد، ولا يشير إليّ بيده، ولا يومئ، فإنّكم لا تؤمنون على أنفسكم".
ولكنّ كل هذه الضغوط، رغم قساوتها، لم تمنع الإمام(ع) من أداء دوره الرّسالي في تبيان حقيقة ما جاء به رسول الله(ص)، وفي التصدّي لكلّ الإساءات التي واجهت الإسلام في فكره وعقيدته وشريعته، وفي الإعداد لولادة الامام المهديّ (عج) بعيداً من أعين الحلفاء العباسيّين، وتهيئة الظروف للتّواصل معه خلال غيبته الصّغرى التي امتدّت لتسعة وستّين عاماً.
النّصيحة في السّرّ
عند أحد توجيهاته، فيروى أنه (ع) قال: "من وعظ أخاه سرّاً فقد زانه، ومن وعظه علانيةً فقد شانه".
ولقد أراد الإمام(ع) من خلال توجيهه هذا، أن ينبِّه إلى الواجب الملقى على عاتق المؤمنين تجاه بعضهم بعضاً، وهو واجب النّصيحة. فكلّ مؤمن معنيّ بأن ينصح أخاه المؤمن؛ بأن يبصّره عيوبه ونقائصه، وأن يدلّه على ما فيه الخير له، وهو اعتبرها حقّاً من حقوقه.
لقد ورد في الحديث: "يجب للمؤمن على المؤمن النصيحة له في المشهد والمغيب".."المؤمن أخو المؤمن؛ عينه ودليله ومرآته".. وفي الحديث: "إنّ أعظم الناس منزلة عند الله يوم القيامة، أمشاهم في أرضه بالنّصيحة لخلقه".
والنصيحة قد تتعلّق بالجانب الديني أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي أو العائلي، أو في أمر الزّواج والطلاق والعمل، لكنّ الإمام(ع) لم يكتف بالدعوة إلى النصيحة والحثّ عليها، بل دعا إلى ضرورة انتقاء الأسلوب الذي يقدِّم به المؤمن النَّصيحة، منعاً لردود الفعل التي قد تحصل جراءها، فالنّاس غالباً ما لا يحبّون أن يطّلع أحد على عيوبهم أو أن يحدّثهم بها، لأنهم يرون النصيحة إساءةً إليهم وإبرازاً لعيوبهم.
ولذلك، دعا الإمام(ع) إلى أن تكون النصيحة سراً، وبعيدة من أعين الناس أو أسماعهم، فمن أراد أن يبيّن لأحد أخطاءه، أو أن يصحّح له مساره، أو يوضح ما فيه مصلحة له، فلا بدَّ من أن يذهب إليه ويتحدَّث معه بشكل شخصيّ مباشر، فلا يجعل، كما نرى في واقعنا، الانتقاد والنصيحة على صفحات مواقع التّواصل، أو عبر وسائل الإعلام، أو أمام جمع من الأصدقاء أو الأقارب أو إلى ما هنالك.
وهذه المقاربة تحسّن من إمكان نجاحها، وتدلّ على إخلاص النّاصح، وتبتعد عن شبهة التفضّل على من يراد نصحه. وهذا ما كان يحرص عليه رسول الله(ص)، فكان إذا رأى في شخص أو في جماعة انحرافاً، لا يسمّيهم بأسمائهم، بل يقول: "ما بال أقوام قد فعلوا؟"، فكان من أساء يعرف إساءته"، من دون أن يعرّض به أمام الناس.
الرّفق في النّصيحة
وأمر آخر يتعلّق بالأسلوب أيضاً، وهو أن لا يبالغ الناصح بالحديث عن السلبيّات التي يراها ممن يريد نصحه، وأن يبدأ الإنسان بالحديث عن إيجابيّاته قبل البدء بنصيحته، كأن يقول له: يا أخي، أنت، والحمد لله، عندك الكثير من المميّزات والقدرات والمواهب، ولكن قد يكون غاب عنك هذا الأمر، وأنا على ثقةٍ بأنَّك قادر على تلافي ذلك...
وأن يكون التَّعبير رقيقاً وليِّناً وبقالبٍ جميل، فالكلام القاسي أو النَّابي أو المثير للانفعال، لا يوصل إلى النَّتيجة المتوخَّاة، بل قد يؤدِّي إلى خلاف الغاية المرجوَّة، وإلى توتّر بين الناصح والمنصوح، وهو ما أشار إليه الله سبحانه عندما قال: {ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}.
وقد ورد في الحديث: "إِنَّ الرِّفقَ لا يَكُونُ في شيءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلا يُنْزَعُ مِنْ شَيءٍ إِلَّا شَانَهُ".
لقد قدَّم الإمام الحسن العسكريّ (ع) من نفسه أنموذجاً للنّاصح الرَّفيق والمحبَّب، سواء في أحاديثه وتوجيهاته، أو من خلال سلوكه وحسن تعامله وعلوّ أخلاقه، فقد استطاع أن يبلغ قلوب من كانوا أشدّ النّاس قساوةً وكراهةً له، حيث يذكر أنَّ الإمام(ع) عندما أُدخِل السجن، جاء العباسيّون إلى المشرف على السّجن، وقالوا له: "ضيِّق عليه ولا توسّع". فقال لهم: "لقد فعلت ذلك، ولكن مَا أَصْنَعُ؟ وقد وكَّلْتُ به رَجُلَينِ مِنْ أَشَرِّ مَنْ قَدِرْتُ عَلَيْهِ، فَقَدْ صارا مِنَ العِبادَةِ والصَّلاةِ والصِّيامِ إلى أْمْرٍ عَظيمٍ"..
وعظ النّفس والآخرين
أيّها الأحبّة، إننا معنيّون بأن نعالج أخطاء الناس من حولنا وتصرّفاتهم أو أفكارهم أو أقوالهم، أن لا نمرّ عليها مرور الكرام، أو أن يكون دورنا في ذلك تسجيل النقاط أو إلقاء الكلام كيفما اتّفق، بل يكون دورنا دور المصلحين الذين يعظون الناس وأنفسهم ابتغاء مرضاة الله بالتي هي أحسن، لنكون كما أرادنا الله، الأمّة التي تريد الخير للآخرين حتى لو لم يطلبوه منها، التي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، الأمّة التي تتواصى بالحقّ وتتواصى بالصّبر، والتي قال الله عنها: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}.