اكدتِ الاحوال الجوية وشدة البرودة وكثرة الامطار التي هطلت في اواخر عام 1953 واوائل سنة 1954 ان فيضاناً خطراً سيداهم العراق .وقال وزير الزراعة (عبد الغني الدللي) ان تدابير قد اتخذت منها تقوية السدود الضعيفة التي نشأت من الفيضانات السابقة في وادي دجلة
وتنسيق العمل والمراقبة وتحديد الواجبات لموظفي الري والادارة وغيرهم ،وفي 17 / 3 / 1954 بدأت مناسيب المياه في نهر دجلة ترتفع ،ووصلت هذه المناسب إلى درجة خطرة في 25 من آذار ، واعلنت البلاغات الرسمية ان الزيادة لم يسبق لها مثيل منذ 48عاماً ،وواصلت المناسيب ارتفاعها ،فتولى الجيش والشرطة والاهالي حراسة السدود ، ووزعت الدوائر المختصة المواد اللازمة لمجابهة الفيضان
وسخرت الحكومة المكائن والالات التي كانت الشركات الاجنبية تستخدمها في تبليط الشوارع واقامة المنشآت ، وقاربت الزيادة 36 متراً في26/اذار ،وهو المنسوب الذي يفوق درجة الخطر بمتر واحد ، فنامت بغداد ليلة 27 اذار وهي فزعة قلقة يتهددها الفيضان والغرق في كل لحظة ،واضطرت سلطات الري فتح اربع كسرات في مناطق الخفاجي والرفيع واليهودية والداوديه .وسهر الناس ليلة 28 /اذار حتى الصباح وهم خائفون ويرتجفون وايديهم على قلوبهم ،فقد بدأت المياه تتسرب إلى كثير من الدور والمؤسسات القريبة من النهر ،
وتحولت ساحة السراي الكبرى إلى بحيرة تعذر على الموظفين اجتيازها بيسر ،وكانت ليلة 29 اذار اسوأ الليالي التي شهدتها بغداد ،وصارت مياه الفيضان التي تجمعت خلف السدود المحيطة بها من الشرق ومن الجنون تهدد العاصمة بغداد ... ولا يحول بينها وبين الكارثة سوى (سدة ناظم باشا) التي تحيط ببغداد من الناحية الشرقية وقد اصابها الهزال واخذت الرياح الشرقية تضغط عليها
وفي تلك الليلة اجتمع رؤساء الوزراء السابقون والوزراء والمسؤولون وبعض النواب والاعيان واتخذ مجلس الوزراء بعد مناقشة دقيقة للموقف قراراً باخلاء بغداد اخلاءً جزئياً وقال البيان" انه من المستحسن ان ينقل الشيوخ والاطفال الصغار والمرضى من المناطق المجاورة للسداد الشرقية إلى جانب الكرخ.." وكان في بغداد زهاء ثلاثة ارباع المليون نسمة يسكن ثلثهم في جانب الرصافة المعرض للغرق .وسأل وزير الداخلية (سعيد قزاز) مهندس الري البريطاني عن درجة الخطر المحدق بالعاصمة ،فلما اجابه المهندس ان درجة الخطر قد تبلغ إلى 95% ،اعلن الوزير القزاز انه يخالف هذا القرار لما يولد تنفيذه من ارتباك قد يؤدي إلى التهلكة
وكان صالح جبر ،احد رؤساء الوزراء السابقين ،ممن حضر هذا الاجتماع ،قد قال :"ان نخوة اهل الكرخ تسمع بايواء سبع عائلات في كل دار من دروهم" ولما حضر الامير عبد الاله وجد نفسه بين قرار لمجلس الوزراء ومعارضة شديدة من جانب وزير الداخلية ،وكانت وجهة نظر القزاز ان في بغداد جسرين فقط فاذا اصطدمت سيارتان من سيارات المتسابقين في الهرب وقعت مذابح لاتعرف مغبتها ولا يمكن تلافي اضرارها.وشاءت ارادة الباري ان توقف الرياح العاتية التي كانت تعبث بالسدود ،وتهدد العاصمة بالكارثة في كل لحظة
فاستقر الرأي على ان تضاعف جهود العناية بالسدود ،وان تتخذ كافة التدابير الضرورية لمجابهة الاحداث المتوقعة في كل لحظة .واعلن وزير الداخلية بياناً إلى الشعب العراقي بنبرات حزينة ونفس كسيرة قابلها الناس بالبكاء والعويل ،وكذب البيان الاخبار التي تحدثت عن بعض الكسرات في سدود مدينة بغداد.ولابد هنا من ذكر الوقفة الجريئة لوزير الداخلية سعيد قزاز وقد ذكر ذلك بعض الاخوة الباحثين في دراسة العراق الحديث في رسائلهم واطاريحهم الجامعية ـ حيث رفض قزاز اخلاء مدينة بغداد الحبيبة.اما المساحة التي غمرتها مياه الفيضان فقد تجاوزت مليوني فدانوغرق كل ماكان خلف سدة ناظم باشا ،وكانت طائرات الهيلوكوبتر تنقذ المحصورين من المياه ،والقت هذه الطائرات 25 طناً من المواد الغذائية ،وتبرع ملك السعودية (سعود) بمليون ونصف مليون ريال وتبرع امير الكويت ( الشيخ عبد الله السالم ) بمائة الف دينار ، وشيخ البحرين ب7500 دينار ، وقداسة البابا بثلاث آلاف دولار وتبرعت الهند بأربعين الف روبية ، ،وايران بمليون ريال ايراني وجمعية الهلال الاحمر بخمسة الاف دينار ، وسمحت حكومة بغداد باجراء اكتتاب عام بمئة الف دينار ،وارسلت حكومات مصر وتركيا والاردن وسوريا بعثات طبية ،اما بريطانيا فقد تبرعت بالف خيمة وبخمسة ملايين كيس رمل نقلتها طائرات خاصة سقطت احداهن وقتل طاقمها ،وتبرعت امريكا من الخيم ومواد الاسعاف.ولم تقتصر الاضرار على بغداد حسب فقد حل بلواء الكوت ما حل بلواء بغداد ، ولحقت لواء العمارة اضرار عظيمةبغداد من الجو في فيضان عام
1954
وان عدد الذين نكبوا بسببها كان نحو ربع مليون نسمة ،اما الاضرار المادية التي لحقت بالطرق والاراضي الزراعية وغيرها فقد تجاوزت خمسة وثلاثين مليون دينار ،وقد غرقت (بغداد الجديدة)
برمتها ولم تبق منها الا مداخن كور الطابوق ،وغرقت حدائق الوزيرية بمياه المجاري ، وغرق (معسكرالرشيد) بما فيه من عتاد وارزاق