بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركااته
في كلام أمير المؤمنين عليّ (ع) الفكر والحكمة والموعظة، وعندما نستمع إليه (ع) يتكلّم، فإنّنا نستمع إلى الحقيقة الصافية النقيّة، لا سيّما في مواعظه التي تمتلئ بالروحانيّة الفيّاضة المتصلة بالله تعالى من دون حواجز، وتنفتح عليه ـ سبحانه ـ من خلال المعرفة الكليّة به، فقد قال عليّ (ع) وهو يتحدّث عن معرفته بالله: "لو كُشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً"، لأنّه (ع) عرف الله عزَّ وجلَّ معرفة، بحيث لو أزيلت كلّ الحواجز التي تتمثل في السماء والأرض، فإنَّ يقينه يبقى في مستواه. ويُروى عن رسول الله (ص) أنه قال مخاطِباً أمير المؤمنين (ع): "يا عليّ، ما عرف الله إلا أنا وأنت، وما عرفني إلا الله وأنت، وما عرفك إلا الله وأنا".
لذلك، لا بدَّ لكم دائماً - أقولها للجيل الطالع من شبابنا ولكبار السنّ ولنسائنا - أن تعيشوا مع القرآن الكريم ومع رسول الله (ص) في كلماته، ومع أهل البيت (ع)، فإنّكم بذلك تنفتحون على الحقيقة كلّ الحقيقة، وعلى الخير كلّ الخير، وعلى خطّ الاستقامة في كلّ مجالات الحياة.. فتعالوا نستمع إلى بعض كلمات عليّ (ع) التي يحدثنا فيها كيف نعيش الدنيا في استعدادنا للآخرة، حتى نليّن قلوبنا ونبعدها عن هذه القسوة التي تغلفها، وعن الاستغراق في الدنيا حتى كأنّنا خالدون فيها، ظنّاً أنّ سعادتها هي السعادة وشقاءها هو الشقاء، ولكن عليّاً (ع) يحدثنا بطريقة أخرى، فيقول:
"أما بعد، فإن الدنيا أدبرت - لأنّنا في كلّ يوم نستدبر يوماً آخر، أين الأمس وأين السنون الماضية من عمرنا؟ كانت مقبلة عندما وُلدنا، ومع مرور الزّمن، أخذ عمرنا يُدبر - وآذنت بوداع - أنذرتنا بأنّكم سوف تودّعونني إن عاجلاً أو آجلاً، وقد أنذرت من كان قبلنا، فأين آباؤنا وأمّهاتنا وأجدادنا؟ لقد أنذرتهم الدّنيا وأكّدت أنّه لا بدّ من يوم أودعكم وتودّعونني فيه، وسوف تودّعنا ونودّعها - وإنّ الآخرة قد أقبلت - لأن كل يوم يذهب من الدنيا، فإننا نستقبل يوماً من الآخرة - وأشرفت باطّلاع - بحيث تأتينا بغتة، لأنّ الإنسان لا يعرف متى يأتيه الموت - ألا وإنّ اليوم المضمار - أي ساحة السباق التي تُدرّب فيها الخيول -وغداً السباق - إلى رحمة الله والجنّة - والسبقة الجنّة - لمن عمل للجنّة - والغاية النار - لأن الذي لا يعمل للجنة، فإن آخر مصيره إلى النّار - أفلا تائب من خطيئته قبل منيَّته - فالله تعالى فتح باب التّوبة، فتُب إلى الله، وهو الذي أعطى الوعد بأن يقبل منك - ألا عامل لنفسه قبل يوم بؤسه"، فاعمل لنفسك قبل أن يأتي اليوم الذي تُلحد فيه في قبرك وتقف في حشرك.
ويتابع أمير المؤمنين (ع) النّداء: "ألا وإنّكم في أيام أمل من ورائه أجل - لأنّ لكلّ أمل نهاية - فمن عمل في أيام أمله قبل حضور أجله، فقد نفعه عمله، ولم يضرّه أجله - فمن عمل في أيام الفرصة، فأدّى واجباته ولم يؤجّلها، فإنّ عمله سوف ينفعه، وعندما يأتيه الأجل، فإنه يكون مستعداً لهذه اللحظة - ومن قصّر في أيام أمله قبل حضور أجله، فقد خسر عمله - لأنه لم يشارك في السّوق في أيّام الموسم - وضرّه أجله. ألا فاعملوا في الرّغبة كما تعملون في الرّهبة، ألا وإني لم أرَ كالجنّة نام طالبها -الله يحدّثنا عن الجنّة وما فيها من سعادة ورخاء، ولكنّ الإنسان يتغافل عنها، مع أنّه في الدّنيا يحارب من أجل متر واحد من قطعة أرض، فيبيع الجنّة بشربة خمر وبشهوة محرَّمة وبكلمة سباب وشتائم وحقد وكلمة تأييد لظالم - ولا كالنّار نام هاربها - فعجباً لبعض الناس الذين يحذّرونهم من الحريق وهم غارقون بالأحلام - ألا وإنّه من لا ينفعه الحقّ يضرّه الباطل - لأنّ البعض يزعم أنّ الحقّ لا يطعمه خبزاً، ولا يعطيه ما يريد، ظنّاً منه أنّ الباطل ينفعه بينما فيه كلّ الضّرر - ومن لا يستقيم به الهدى، يجرّ به الضّلال إلى الرَّدَى، ألا وإنّكم قد أمرتم بالظَّعن - السّفَر - ودُللتم على الزّاد - {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} - وإنّ أخوف ما أخاف عليكم اثنتان: اتّباع الهوى - بأن يعطي نفسه ما تريد وتشتهي - وطول الأمل، وتزوَّدوا في الدنيا من الدنيا - من عملك وتقواك -ما تحرزون به أنفسكم غداً".
وقد شرح الإمام عليّ (ع) هذا المقطع الأخير من ندائه بكلمة قالها في موضع آخر، جاء فيها: "أيها النّاس، إنّ أخوف ما أخاف عليكم اثنتان: اتّباع الهوى، وطول الأمل، فأمّا اتباع الهوى فيصدّ عن الحقّ - لأنّ هوى النفس وشهواتها تبعد الإنسان عن مواقع رضى الله تعالى وطاعته، وعن مواقع الحقّ في علاقتك مع النّاس ومع الحياة كلّها، وقد قال الله تعالى: { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} - وأمّا طول الأمل فيُنسي الآخرة، ألا وإن الدنيا قد ولّت حذّاءً - سريعة - فلم يبقَ منها إلا صُبابة كصبابة الإناء اصطبّها صابّها - ونحن نصبّ من عمرنا ولم يبقَ منه إلا القليل - ألا وإنَّ الآخرة قد أقبلت، ولكلّ منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإنّ كلّ ولد سيُلحق بأمّه يوم القيامة - فإن كنت من أبناء الدّنيا، فإن الدنيا قد ذهبت وليس لك شيء فيها، وإن كنت من أبناء الآخرة، فإنها تضمّك وتحتضنك ولاتزال بك حتى تدخلك الجنّة -وإنّ اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل".
هذه موعظة عليّ (ع)، التي لم تقتصر على المرحلة التي عاش فيها، وإنما هي للإنسان كلّه وللزّمن كلّه، فتعالوا نأخذ من وعظ عليّ (ع) وروحانيّته ومعرفته بالله، فإنّنا عندما نلتزم عليّاً (ع)، فإنّنا نلتزم النّور والنبأ والحقيقة، وإذا التزمنا عليّاً (ع)، التزمنا محمداً (ص) معه، وإذا التزمناهما، فإنّنا نلتزم الله تعالى، لأنّ محمداً رسول الله، ولأنّ عليّاً وليّ الله، ولأنّ الله ربنا وحده لا شريك له.