الدكتور راغب السرجاني من أكثر الذين تخصَّصوا في كتابة التاريخ الإسلامي، وفي قراءته أيضًا، فقدَّمه للشباب بشكلٍ شيِّقٍ ومفيدٍ في الوقت ذاته.. حاورنا الدكتور راغب السرجاني صاحب أكبر موسوعةٍ لكتابة التاريخ تحت عنوان "قصة الإسلام"، والحاصل على جائزة "نبيِّ الرحمة" عن بحثٍ بهذا العنوان في قضايا التاريخ المطروحة على الساحة، والذي أكَّد أنَّ الشباب هم الأقدر على قراءة تاريخ الأمم وتطبيقه، فإلى نص الحوار..



في البداية ما العلاقة بين التاريخ وأهميَّة دراسته بالنسبة إلى الشباب؟
دراسة التاريخ تُعرِّفنا حركة صعود الأمم وهبوطها؛ فللتاريخ أهميَّة، وأهميَّته تظهر واضحةً وجليَّةً في أنَّه يُمثِّل المرآة الحقيقية للواقع، وأنا من أنصار أنَّ الواقع له مثل في تاريخنا بأيِّ حالٍ من الأحوال، ولذلك فالحلول كثيرة، والسؤال من يستخرج لنا هذه الحلول، ويُقدِّمها لأبناء الأمَّة، والشباب أكثر الفئات التي تحتاج لتطبيق ذلك في الواقع ومِنْ ثَمَّ الاستفادة منه.



الدعوة لدراسة التاريخ قديمة، ما الأثر الذي تراه مفيدًا للشباب من قراءته؟
للأسف لا يوجد اهتمامٌ شديدٌ بالتاريخ قديمًا، ولا أقول التاريخ الإسلامي فقط؛ وإنما بالتاريخ بشكلٍ عام، وسواءٌ من قِبَل الشباب أم غيرهم، فربَّما أرى أنَّ دراسة تاريخ الأمم السابقة يكون فيها العلاج الناجع، والحكمة ضالَّة المؤمن أنَّى وجدها فهو أحقُّ الناس بها، ولذلك ما هو موجود على الساحة دعواتٌ فقط ولم تتطرَّق للشباب من قريبٍ أو بعيد، وبالتالي يجهل هذا الشباب قراءة التاريخ ولم يدخل هذا المعترك كثيرون بالشكل المطلوب، وأنا أرى الشباب طاقةً استخدامها سوف يكون له تأثيرٌ كبيرٌ، وهذا الاستخدام سوف يكون عن طريق قراءة التاريخ.



على المستوى الشخصي ماذا قدَّمتم للمجتمع في دراساتكم المتخصِّصة للتاريخ؟
قمتُ بدراسة الحقب التاريخيَّة المتشابهة مع مجتمعنا، كما قمتُ باستخلاص العبر والدروس، ودراسة كيف خرج المسلمون من هذه الأزمات وقتها، أو على الأقل نستفيد من أوضاع الماضي، وما المنهج الذي ساروا عليه ونُعطي هذه الخطوات لمجتمعنا المعاصر، ما يمرُّ بنا من أحداثٍ في العراق وأفغانستان وقد حدث ذلك أيام التتار، فلا بُدَّ أن نسير على ما سار عليه قطز وصلاح الدين ومن خلفهم للخروج من حالة الهزيمة التي تعيشها الأمَّة، فننظر إلى كيفيَّة استبدال النصر مكان الهزيمة كما فعل قطز، ولكنَّنا للأسف الشديد لا نتعامل مع المنهج الذي تعامل معه الآخرون.



ما أثر التاريخ والسيرة النبوية في واقع الأمَّة الإسلاميَّة بعد غزو الثقافات الغربيَّة لعالمنا العربي والإسلامي؟
السيرة النبويَّة لها خصوصيَّة التطبيق الحي، ولذلك لا يمكن مقارنتها بالتاريخ؛ فكلُّ خطوةٍ خطاها النبيُّ كانت بقدر، وأنا أؤمن أنَّ ما مِنْ حَدَثٍ يحدث في مجتمعنا إلَّا وله شبيهٌ في حياة النبي، ولذلك لا بُدَّ من دراسة التاريخ من خلال مجموعةٍ ضخمةٍ من الباحثين؛ "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة" أمرٌ مطلقٌ وحتميٌّ لدراسة السيرة النبويَّة، ثم دراسة التاريخ، ويكون في حقبة الخلفاء الراشدين لأنَّها تُمثِّل تطبيقاتٍ عمليَّة، ولأنَّها تُمثِّل حَجَر زاوية، وقد ذكر النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي» [1]؛ فقد كان في هذه الحقبة أزماتٌ، ورأينا طرق حلِّها وكيفيَّة الخروج منها، مثال في جمع القرآن، والفتنة الكبرى، وحروب الرِّدَّة، وغيرها من الأمور؛ فهذه الأزمات كانت غير موجودةٍ أيَّام النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقد تعلَّمنا كيف خرج منها هؤلاء الراشدون، وبذلك خرج لنا منهجٌ متكاملٌ وواضحٌ للسير على هداه وطريقه، ثم يأتي بعد ذلك طريق التابعين من أبناء هذه الأمَّة ليتركوا لنا كنزًا كبيرًا من العبر والدروس التي نستفيد منها.



وما الدروس العمليَّة التي يمكن تطبيقها والاستفادة منها، ومِنْ ثَمَّ الانطلاق نحو عالمٍ يصنعه المسلمون بأيديهم، ويكونون فيه مؤثِّرين؟
بناء الأمَّة لا يوجد به نوع من اللبس سواءٌ في عهد الصحابة، أم من خلال قادة مثل: ألب أرسلان، أو يوسف بن تاشفين، أو عبد الرحمن الداخل، أو عمر بن عبد العزيز، أو صلاح الدين، وغيرهم الكثير الذين يزخر بهم عالمنا الإسلامي، ساروا من خلال منهجٍ كان يتمحور حول القرآن والسنة، ثم الأخذ بأسباب العلم ودراسة أحوال العدوِّ وأولويَّات الأمَّة للتغيير، هذا منهجٌ واضح، وعلينا النظر كيف ابتدئ به وكيفيَّة تطبيقه.



كيف يستفيد العالم الإسلامي من واقع التاريخ المعاصر، وما المحطات الرئيسة التي لا بُدَّ أن يتوقَّف عندها؟
التاريخ المعاصر فيه محطاتٌ هامَّة، وتبدأ من خلال مئتي سنة، ويظهر في تاريخ الاحتلال الذي ظهر في آخر مائتي سنة، وهذا التجارب لن تتكرَّر كثيرًا؛ فكما احتلت مصر وتونس والجزائر، احتل الآن أفغانستان والعراق وغيرها، فالطريقة التي احتُلَّت بها هذه الدول تتكرَّر الآن، دراسة تجارب التحرُّر من العالم الغربي، لا بُدَّ من دراسة سقوط الخلافة العثمانيَّة، أسبابه ونتائجه، ونحتاج دراسة ظهور القوى العالمية المؤثرة كأميركا، وظهور إسرائيل، كيف يتعايش معها المسلمون أو يتغلبون عليها، ومطلوب دراسة حركات التغيير في العالم الإسلامي بشكلٍ عام، ليس في العالم الإسلامي فقط؛ وإنَّما في العالم أجمع، مطلوب دراسة كيف خرجت رومانيا وبوليفيا وفنزويلا، وكيف وصلت الحركات الإسلاميَّة للمشاركة في الحكم كما حدث في تركيا واليمن والأردن.



البعض يرى أنَّ الاهتمام المفرط بالتاريخ يُعدُّ انتكاسةً وارتدادًا عن المعاصرة التي قفزت قفزاتٍ هائلةً في مجالات العلوم التطبيقيَّة؟
الذي يقول ذلك يريد النتيجة دون البحث في الأسباب؛ فالذي ينظر للعلوم التطبيقيَّة في الغرب سوف يرى أنَّ هذه العلوم دون جدال انتقلت عن طريق العرب والمسلمين في الأساس، من الأندلس وغيرها من بلاد المسلمين، ومِنْ ثَمَّ كانت نهضتهم عن طريق بنائهم على هذه العلوم؛ فهذه العلوم التطبيقيَّة كلُّها ناتجةٌ عن ميراثٍ ضخمٍ من التاريخ كان للمسلمين فيه سهمٌ ونصيبٌ كبير.



ما الأفكار التي ما زلتم ترونها بعيدةً تمامًا عن البحث في السيرة، وتحتاج لمجهود عشرات المراكز البحثيَّة حتى تنتفع الأمَّة بها ومِنْ ثَمَّ يكون التغيير؟
التاريخ الإسلامي يُمثِّل حزمةً كبيرة؛ فنحن ندرس الآن التاريخ السياسي فقط وهو مهم، ولكن لا بُدَّ من دراسة التاريخ الإيماني والعقائدي والترفيهي، حتى نعلم أنَّنا نعيش بداخل أمَّةٍ طبيعيَّةٍ متكاملة فيها كل معالم الأمور، وكل هذا بلا شَكٍّ يحتاج لعشرات المراكز البحثيَّة.



تُرتكب جرائم كثيرة في حقِّ التاريخ، ويشترك في هذه الجرائم الباحثون الذين تخلوا تمامًا عن تنقية هذا التاريخ، ترى من وراء هذا الجرائم، وهل هي موجَّهة بالفعل؟
من هذه الجرائم تزوير تاريخ المسلمين؛ وذلك كي يقطعوا أواصر المسلمين عن بعضهم، وهناك جانبٌ آخر من المسلمين -لا أقول العلمانيِّين- عن طريق الحماسة الشديدة للدين يتغاضون عن الأخطاء التي اُرتُكِبت في التاريخ الإسلامي، ولا يذكرون إلَّا الفضائل والحسنات، ولا يستفيد الناس بذلك ويخرج التاريخ الإسلامي على أنَّه تاريخٌ ملائكيٌّ وليس تاريخ بشرٍ منزَّه، ويظهر التاريخ بذلك على أنَّه تاريخٌ غير واقعي، فلا بُدَّ للباحث الأمين أن يدرس التاريخ بشقَّيه، وكيف تعامل المسلمون بالشكل المنصف الذي يُستفاد منه.



حصلتم على جائزة "نبي الرحمة" في السيرة النبويَّة وسيرة الرسول الكريم، نحبُّ أن نتعرَّف منكم على أهمِّ النقاط الرئيسة التي اعتمد عليها البحث؟
البحث اعتمد على نقاطٍ أساسيَّةٍ في دراسة مظاهر الرحمة المتكاملة والشاملة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أظهرنا في البحث مظاهر الرحمة مع غير المسلمين مع من قاوموه وعاندوه من الكفَّار، وكيف تعامل مع أعدائه الذين حاربوه، وعرضنا لوجهة النظر الغربيَّة لمفهوم الرحمة، وتحدَّثنا عن المنصفين من أبناء الغرب، وكيف لحظوا بأنفسهم هذه الرحمة.



لماذا لا تلجئون إلى نشر أبحاثكم هذه، ولماذا اختفت الجهات المموِّلة لمثل هذه الأبحاث في الوطن العربي؟
الحمد لله بدأت تظهر جهات مموِّلة؛ حيث كانت غير ظاهرة، فأصبحت هذه الهيئات على المستوى المطلوب، ورُبَّ ضارَّةٍ نافعة؛ فالطعن على النبيِّ حرَّك جهاتٍ كثيرةً للكتابة والدفاع عنه، أمَّا فيما يتعلَّق بالبحث، فهناك جهاتٌ كثيرةٌ تُريد أن تنشر البحث، وهي تلك الجهات المموِّلة للبحث، ويستلزم ذلك أن تقوم الجهة المموِّلة للبحث بطباعته، فيتأخَّر بعض الشيء، وهو نوعٌ من التعطيل، وهو الواقع مع بحث نبيِّ الرحمة وإن كانت هناك خطوات إيجابيَّة الآن تسير في طريق نشر البحث.



ما الدور الذي تراه على درجةٍ من الأهميَّة بعد رعاية دول الخليج لأغلب الأبحاث التي تُدافع عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وما تقييمكم لهذا الدور؟
دورٌ في غاية الأهميَّة؛ حيث تقوم الدولة والأفراد والشركات الكبرى في دول الخليج، من خلال السعوديَّة والكويت والإمارات وقطر وهو شيءٌ مطمئن، بحيث يدعم رجال الاقتصاد، هذه الأبحاث لوجه الله، وأنا من خلال هذه المناسبة أشدُّ على أيديهم، وأدعو لهم بالإخلاص والقبول.



ماذا عن دور الشباب المسلم من وجهة نظرك في تقديم صورةٍ حضاريَّةٍ مشرقةٍ عن الإسلام والدعوة إليه؟
من أهم أسباب تغيير الواقع، أن يقوم الشباب بالدور الموكول إليه، وأهم دورٍ في ذلك؛ التغيير والتجديد والإصلاح، والشباب يُخطئ إنْ ظنَّ أنَّ هذه الفترة فترة لعب؛ فهي فترة علمٍ وعمل، واهتمامٍ بدور الأخلاقيَّات العامَّة، وأخلاقيَّات الرحمة والعمل، وإصلاح المنكر، وما أكثره سواءٌ كان في الشارع أم النادي، وبذلك سوف تظهر أمَّة الإسلام بشكلٍ مختلف.



وما واجب الشباب المسلم في الدفاع عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وما مواطن الخلل حتى يتم علاجها، وجبر النقص الذي يعتريها؟
أوَّلًا لا بُدَّ من ضرورة التعريف بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم ثم يُبلِّغون عنه؛ لأنَّ الغرب لا يعرف النبيَّ حقَّ المعرفة، وأكثر الأسئلة التي جاءت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم بعد الرسوم المسيئة "من هو محمد؟"، ثم مطلوبٌ أثناء ذلك كلِّه الممارسة العمليَّة لسُنَّة الحبيب "صلى الله عليه وسلم"، وأن يكون الشباب أسوةً حسنةً وقدوةً عمليَّةً تتحرَّك بين الناس.



وما جوانب الخلل إذن في الأمة لمعالجتها؟
أنا أجدها في التعليم والإعلام، لو أُصْلِح التعليم والإعلام لتحقَّقت نهضةٌ إسلاميَّةٌ بطريقةٍ غير متخيَّلة، فلو أُصلِح هذان البندان لتغيَّر واقع الأمَّة كلِّها، بعد الهجمة الشرسة التي يتعرَّض لها الإسلام.



هل لكم مشاريع ترونها هامَّةً في الوقت الحالي، وعلى جمهور الدعاة الباحثين في هذا الشأن اللجوء إليها؟
من المشاريع الخاصَّة دراسة الحروب الصليبيَّة والهجمة التي يتعرَّض لها المسلمون دراسةً منصفةً على غير ما كُتِب فيها، ومن المشاريع المهمَّة كذلك مشروع " قصة الإسلام "، وهو عبارةٌ عن دراسة التاريخ الإسلامي بشكلٍ مختصر من خلال ألف سنةٍ تقريبًا.



ماذا عن مشاريعكم الخاصَّة في الكتابة؟
لا بُدَّ أن ننصرف لدراسة التاريخ بشكلٍ عام، ودراسة اللحظات التي انتقل منها المسلمون من ضعفٍ لقوَّة، ولا بُدَّ من دراسة حِقَب التتار والرِّدَّة والفتنة وملوك الطوائف، ونقوم بدراسة من جاء بعد ذلك ليُصلح الأحوال ويُخرجنا من الهزيمة إلى النصر.

[1] أخرجه أبو داود (4607)، والترمذي (2676)، وابن ماجه (42)، وأحمد (17145) مطوَّلًا.
قصة الإسلام