بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركااته
تتألق العبادة في حياة السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام تألق العارفين المشتاقين الوالهين، الذين نظروا إلى الدنيا والوجود بعين اللَّه فانقشعت الحجب عن أنظارهم ليتراءى لهم عالم الملكوت الأعلى بجماله وبهائه المعنوي... إنها عبادة الأحرار التي تنقلها إلى عالم آخر: حنين ووصال تتوهج معه القلوب، وتضطرم الأوصال بنيران العشق الإلهي لتنسلخ الروح عن البدن وتهاجر إلى عالم آخر يختلف في طبيعته وماهيته عن عالم الدنيا الذي نعيشه... وأنَّى لنا أن نصف عبادتك سيدتي!؟ أو أن نبحر في سيل عطائك الزاخر!؟ وهل يصف المحدود الكمال؟! أم هل يعرج إليكِ مَن أسرته المادَّة وكبلته الدنيا بقيودها ليسمو في دنيا الآفاق ويرتقي في معراج روحي ملائكي؟! ليتنا نتعلم من سيرتك العطرة كيف نجسد العبادة في حياتنا واقعاً وعملاً متحركاً لها مصاديق ومفردات عملية! كيف نجسِّد أقوالك وأفعالك صوراً حية تنبض بالحياة والأمل والعطاء... انطلاقاً من مفهوم العبادة الذي يلعب دوراً أساسياً في صقل شخصية الإنسان، وتهذيبها وتغذيتها... كيف تجلت صورة العبادة في حياة فاطمة الزهراء عليها السلام؟ وهل العبادة في نظرها صلاة وصيام فقط أم تتعدى إلى أكثر من ذلك؟ وكيف تستطيع المرأة المسلمة المعاصرة أن تأخذ الزهراء عليها السلام أسوة وقدوة لها في حياتها، تستنير بهديها، وتستضيء بعلمها؟
* صلاة فاطمة عليها السلام سمو وارتقاء
إن عبادة الزهراء عليها السلام وصلاتها عروج إلى اللَّه وارتقاء إلى معدن العظمة، تجد فيها اللذة والمناجاة، هي لذة روحية لا أحد يعرف كنهها أو يدرك مداها إلا من اكتوى بلذة الحبِّ الإلهي وانعتق من سجن الدنيا الضيق ليحلق في فضاء اللَّه الرحب... ولكي تتجسد هذه الصورة واضحة أمام نواظرنا نذكر ما ورد عن الإمام الحسن عليه السلام في صفة عبادة أمه الزهراء عليها السلام والأثر الذي تركته في نفسه، يقول الإمام الحسن عليه السلام: "رأيت أمي فاطمة عليها السلام قامت في محرابها ليلة جمعتها فلم تزل راكعة ساجدة حتى اتضح عمود الصبح، وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتسميهم. وتكثر الدعاء لهم ولا تدعو لنفسها بشيء، فقلت لها: يا أماه لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟ فقالت: يا بني! الجار ثم الدار"(1). وروى الحسن البصري: "ما كان في هذه الأمة أعبد من فاطمة، كانت تقوم حتى تورَّم قدماها"(2). إن حب الزهراء عليها السلام للَّه تعالى وشوقها أرقها... جعلها تحيي الليل كله في المناجاة والدعاء والابتهال والرجاء، ليس لها فقط بل قدّمت جيرانها وشيعتها من المؤمنين والمؤمنات وطلبت من اللَّه تعالى أن يوفقهم ويغفر لهم، ويشفي مرضاهم، ويتحنن على أيتامهم ويقضي حوائجهم وفي هذا دلالة على القيم الإنسانية وشفافية الروح العظيمة التي تحلّت بها مولاتنا الصديقة فاطمة الزهراء عليها السلام وبهذا العمل أرادت أن تعلِّم شيعتها والناس كافة مبدأ الحبِّ في اللَّه والبغض في اللَّه وأن حبَّ الناس والعطف عليهم وخدمتهم وايثارهم على الأنفس والذات يعتبر من أعظم العبادات التي تقربنا من المولى عزَّ وجلَّ. لذلك فلا غرابة أن يمدحها رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ويصفها بقوله: "وأمَّا ابنتي فاطمة فإنها سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، وهي بضعة مني، وهي نور عيني وهي ثمرة فؤادي، وهي روحي التي بين جنبي، وهي الحوراء الإنسية، ومتى قامت في محرابها بين يدي ربها جل جلاله زهر نورها لملائكة السماء كما يزهر نور الكواكب لأهل الأرض، ويقول اللَّه عزَّ وجلَّ لملائكته: يا ملائكتي انظروا إلى أمتي فاطمة، سيدة إمائي قائمة بين يدي، ترتعد فرائصها من خيفتي، وقد أقبلت بقلبها على عبادتي، أشهدكم أنِّي قد أمنت شيعتها من النار"(3).
* ميادين العبادة في حياة الزهراء عليها السلام
لم تقتصر العبادة في حياة السيدة الزهراء عليها السلام على الدعاء والصلاة والتسبيح فقط، وإن شغلت حيزاً كبيراً من وجودها المبارك، وكان من أبرز صفاتها الصبر على البلاء وشكر اللَّه تعالى في السراء والضراء، والرضا والقضاء، فقد روت عن أبيها أنه قال: "إن اللَّه إذا أحبَّ عبداً ابتلاه فإن صبر اجتباه، وإن رضي اصطفاه" وقالت عنه أيضاً: "إن اللَّه أوحى إلى موسى بن عمران وقال له: أنا أعلم بما يصلح عبدي المؤمن فليصبر على بلائي وليشكر نعمائي وليرضَ بقضائي أكتبه في الصديقين عندي" ومرتبة الصديقين مرتبة عالية لا ينالها إلا المقرّبون. وكانت من أقرب الناس إلى أبيها في الجود والسخاء وقد روت عنه: "السخاء شجرة من أشجار الجنة أغصانها متدلية إلى الأرض، فمن أخذ منها غصناً قاده ذلك الغصن إلى الجنّة"(4) وسمعت أباها يقول أيضاً: "السخي قريب من اللَّه، قريب من الناس وقريب من الجنة بعيد عن النار وإن اللَّه جواد يحب الجواد" وهذه الروايات وغيرها تبين لنا الخلال والصفات العالية التي تمتعت بها والتي تعطينا دروساً في النهج على سيرة أهل البيت عليهم السلام والتي تعتبر قمة العبادة والخضوع. لقد ارتقت الزهراء عليها السلام بعملها إلى أرقى وأعلى درجات الإيثار وحب الناس وكانت تردد الآيتين المباركتين: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾. إلى الكثير من الروايات التي تجسد القيم والفضائل والأدب الإنساني الرفيع حتى قال في حقها رسول اللَّه صلى الله عليه : "فاطمة بضعة مني فمن أغضبها فقد أغضبني" وفي رواية أخرى بيّن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله أن غضب الزهراء ورضاها يوجب غضب اللَّه سبحانه وتعالى: "يا فاطمة إن اللَّه يغضب لغضبك ويرضى لرضاك". نستشف من خلال هذه الرواية أن رضا اللَّه مقرون برضاها، وغضبه مقرون بغضبها وفي هذا دلالة على عصمتها فهي وولدها وأهل بيتها القرآن الناطق الذي جسَّد كلام اللَّه تعالى واقعاً وتطبيقاً، وحققوا معنى العبودية الحقة فانطلقوا في آفاقها الرحبة، ينهلون من عذب نميرها الصافي، ويعيشون الغنى الفكري والعقائدي والإيماني الذي لا يوازيه شيء في هذا الوجود... ويزهدون في الدنيا وعيشها الزائل... ينظرون إليها نظرة تحقير واستهانة وإن أحبوا البقاء فيها فمن أجل العبادة والعمل الصالح لأن قلوبهم إطلعت فرأت نعيم الجنة وجمالها الذي لا يزول... لذلك كانت عليها السلام تنفتح على اللَّه تعالى بالدعاء والمناجاة والاستغفار والتسبيح والتحميد والتمجيد وهذه كلها عناصر قوة تمدها بالعزم واليقين والإرادة الصلبة في مواجهة صعاب الحياة... فقد كانت تترقب بشغف ساعات الدعاء وفيما ورد عنها أنها قالت:
"سمعت النبي صلى الله عليه وآله يقول: إن في الجمعة لساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل اللَّه عزَّ وجلَّ فيها خيراً إلا أعطاه إياه، قالت: فقلت يا رسول اللَّه أي ساعة هي؟ قال إذا تدلَّى نصف عين الشمس للغروب". وكانت فاطمة تقول لغلامها: "اصعد على السطح، فإن رأيت نصف عين الشمس قد تدنى للغروب فأعلمني حتى أدعو"... هذا إضافة إلى تسبيحها المبارك الذي ورد في شأنه. ثواب كبير وأجر عظيم لأنه يستند على دعائم ثلاثة من دعائم الإيمان... تكبير اللَّه وحمده وتسبيحه وإذا ما استقرت هذه الصفات في قلب عبد مؤمن تحولت حياته إلى يقين وإيمان وعمل صالح فعن أبي عبد اللَّه عليه السلام (في حديث نافلة شهر رمضان) قال: سبّح تسبيح فاطمة عليها السلام، وهو "اللَّه أكبر" أربعاً وثلاثين مرة "وسبحان اللَّه" ثلاثاً وثلاثين مرة، "والحمد للَّه" ثلاثاً وثلاثين مرة، فواللَّه لو كان شيء أفضل منه لعلّمه رسول اللَّه صلى الله عليه وآله إياها...". ويستفاد من هذه الروايات وروايات أخرى المنزلة الرفيعة التي تبوأتها فاطمة عليها السلام. فإذا عرفنا أن رضا اللَّه تعالى مقرون برضاها وغضبه تعالى مقرون بغضبها فهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدل على عصمتها ونزاهتها وطهارتها ومن هنا كان الثواب العظيم لمن يزورها أو يسلم ويصلي عليها، فقد ورد عن علي عليه السلام، عن فاطمة عليه السلام قالت: "قال لي رسول اللَّه صلى الله عليه وآله: يا فاطمة من صلّى عليكِ غفر اللَّه له وألحقه بي حيث كنتُ من الجنّة".
(1) فاطمة الزهراء من المهد إلى اللحد.
(2) ن.م.
(3) ن.م.
(4) سيرة الأئمة الإثني عشر.