بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركااته


حينما نسأل القرآن الكريم عن الدنيا: ما هي؟ وما هي حقيقتها؟ وعن الآخرة: ما هي؟ وما هي حقيقتها، فإنه يجيبنا - وبكل صراحة - ويقول: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدنْيَا إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِن الدارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}(العنكبوت: 64)، فحقيقة الدنيا{ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ}) الحديد: 20( لا غير، أما الآخرة فهي الحَيَوان أي دار الحياة الحقيقية.

فإذا كانت الدنيا دار لهو ولعب، وكانت الآخرة دار الحياة الحقيقية وجب على الإنسان العاقل أن يتعامل مع الآخرة على أساس أنها الحقيقة، ومع الدنيا على أساس أنها لهو ولعب، فيوجه أنظاره وعنايته إلى الآخرة أولاً ثم الدنيا ثانياً، قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدنْيَا}(القصص: 77)، لا أن يعكس الأمر فيتعامل مع الآخرة وكأنها لهو ولعب فيهجرها أو يزهد فيها، ويتعامل مع الدنيا على أساس أنها حقيقة مطلقة غير قابلة للشك، فيتعلق بها ويطمع فيها ويركن إليها ويطمئن لها، فيأمن غوائلها ومكرها، فيكون كالطفل الذي يتعامل مع دميته - التي هي للهو واللعب - على أساس أنها حقيقة، فيتعلق بها ويطمع فيها ويتألم إذا أخذت منه أو أصابها سوء أو مكروه كأن تقطع يدها أو يفصل رأسها، يقول أمير المؤمنين علي ع لولديه الحسن والحسين عليهما السلام:"عليكما بتقوى الله، وأن لا تبغيا الدنيا وإن بغتكما، ولا تأسفا على شيئ منها زوي عنكما"[1]،{ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ}( التوبة: )38،
{ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتقِينَ}( النحل: 30).

فالإنسان لم يخلق للدنيا حتى يتعلق بها ويرفض أن يفارقها بل هو في سفر، يقطع العوالم عالَماً عالَماً، بدأ سفره من الله وينتهي من سفره عند الله، قال تعالى
: {إِنا لِلهِ وَإِنا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}(البقرة: 156)، ولهذا شبه العلماء مسيرة الإنسان بالدائرة؛ لأن نقطة النهاية في الدائرة هي نفسها نقطة البداية، ونقطة البداية هي نفسها نقطة النهاية، بخلاف الأشكال الأخرى التي تكون فيها نقطة النهاية غير نقطة البداية، ونقطة البداية غير نقطة النهاية، وهذه النقطة التي تلتقي فيها النهاية بالبداية والبداية بالنهاية تمثل المبدأ الذي انطلق منه الإنسان والمعاد الذي يرجع إليه، ولهذا نقول بأن الله تعالى{هُوَ الأَولُ وَالآخِرُ}(الحديد: 3)، الأول الذي لا أول قبله، والآخر الذي لا آخر بعد.

ثم قسم العلماء دائرة سفر الإنسان إلى قسمين فشكلت قوسين، القوس الأول ترسمه - في العادة - من الأعلى إلى الأسفل، والقوس الثاني ترسمه - حينما كان القوسان يشكلان دائرة كاملة - من الأسفل إلى الأعلى، ثم أسموا القوس الأول بـ قوس النزول؛ لأنك في الرسم تنزل فيه من الأعلى إلى الأسفل، وأسموا القوس الثاني بـ قوس الصعود؛ لأنك في الرسم تصعد فيه من الأسفل إلى الأعلى.

ثم قسموا كل قوس منهما إلى قسمين ونصف، فكانت الأقسام خمسة باعتبار أن النصف مع النصف في أسفل القوسين يشكلان قسماً كاملاً، ثم قالوا بأن هذه الأقسام الخمسة هي عبارة عن مجمل العوالم التي يقطعها الإنسان في سفره، فـ:


ــ القسم الأول هو عبارة عن عالَم العقل.

ــ والقسم الثاني هو عبارة عن عالَم المِثَال، ويسمى أيضاً بـ عالَم البرزخ النزولي، وقد سمي بـ البرزخ؛ لأن معنى البرزخ هو الحاجز بين شيئين، قال تعالى:{مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَان}( الرحمن: 19-20)، يعني بينهما حاجز يمنع كل واحد من أن يبغي على الآخر، وعالَم المثال يقع بين العالَم الأول والعالَم الثالث في نفس القوس، وسمي بـ النزولي؛ لأنه يقع في قوس النزول.

ــ أما القسم الثالث وهو المؤلف من النصفين فهو عبارة عن عالمَ المادة، ويسمى أيضاً بـ عالَم الدنيا.

ــ والقسم الرابع هو عبارة عن عالَم القبر، ويسمى أيضاً بـ عالَم البرزخ الصعودي، وقد سمي بـ البرزخ؛ لأنه يشكل حاجزاً بين العالَم الثالث والعالَم الخامس في نفس القوس، وسمي بـ الصعودي؛ لأنه يقع في قوس الصعود.

ــ أما القسم الخامس فهو عبارة عن عالَم القيامة، عالَم الآخرة، عالم الجنة والنار، وهذا العالَم يمتاز عن العوالِم الأخرى بأنه لا نهاية له، فهو إما خلود في الجنة وإما خلود في النار.

ثم قالوا: في قوس النزول ينزل الإنسان من عند الله تعالى إلى عالم الدنيا، ثم من عالم الدنيا يصعد من جديد إلى الله، قال تعالى:
{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطيبُ}(فاطر: 10)، ومن هنا كانت الدنيا في دائرة مسيرة الإنسان تشكل نصفين: نصف في قوس للنزول لينزل الإنسان إليها، ونصف في قوس الصعود ليصعد الإنسان منها.

ونحن إذا تأملنا دائرة سفر الإنسان من الله تعالى وإليه وتقسيماتها الخمسة فإننا نجد أن قسم الدنيا يقع في أسفل الدائرة، وهذا أحد أوجه تسميتها بـ الدنيا، ففي الرواية عن أمير المؤمنين علي ع: "إنما سميت الدنيا دنيا لأنها أدنى من كل شيء""[2]، لماذا أدنى من كل شيء؟ لأنها تقع في أسفل دائرة المسيرة الإنسانية من الله تعالى وإليه، وقيل بأنها سميت دنيا من الدناءة بمعنى الحقارة، فهي العالَم الوحيد - من بين كل العوالم - الذي يُعصى الله تعالى فيه، وفيه فقط يتجرأ المخلوق على خالقه، ولذلك هي لا تساوى عند من يفقه حقيقتها حتى عفطة عنز، وربما رجع السبب الأول إلى السبب الثاني بمعنى أن يكون السبب في كونها أسفل دائرة المسيرة الإنسانية هو حقارتها ودناءتها.

فإذا كانت الدنيا هكذا، وهكذا هو حالها إذن لماذا يغتر الإنسان بها ويركن إليها ويطمع فيها، مع أنه إذا نسبها إلى عالم الآخرة - التي هي دار الخلود - وجدها أقل طولاً وأصغر عمراً، فكم سيبلغ طولها إذا ما قيست بالعوالم الأخرى جميعاً؟ لذلك يقول رسول الله (ص): "الدنيا ساعة"، والمقصود بالساعة هنا هي اللحظة والبرهة من الزمن وليس الستين دقيقة.

فإذا كان عمر الدنيا كلها ساعة من نهار أو لحظة من زمان فكم سيبلغ عمري وعمرك فيها ونحن الذين وُجدنا فيها لا لنعيشها كلها من أولها إلى نهايتها وإنما لنعيش فيها سنوات معدودة؟ سبعين سنة أو ثمانين سنة، وفي الحد الأقصى مائة وعشرين سنة، ومهما عُمرنا فيها فإننا لن نبلغ عمر أهل الكهف الذين قال الله تعالى فيهم
: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا}( الكهف: 25 )، ومع ذلك حينما أفاقوا و قَالَ قَائِلٌ منْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ الكهف: 19، فإذا كانت 300 سنة وأكثر لا تكاد تعادل يوماً أو بعض يوم من عمر الإنسان في الدنيا بحسب تقدير الإنسان نفسه، والحال أن عمر الدنيا كله لا يتجاوز الساعة من عمر الآخرة؟ فكم إذن سيبلغ عمره إذا ما قيس بالآخرة؟!

لذلك يقول رسول الله (ص): "الدنيا ساعة" أي لحظة من وجود، وفرصة منحك الله تعالى إياها لتسعى فيها قدر جهدك لنيل كمالك الأخروي، فهو القائل: {وَأَن ليْسَ لِلإِنسَانِ إِلا مَا سَعَى}( النجم: 39 )، ولا تنسَ أن الفرص تمر مر السحاب، والعاقل هو الذي يستثمر كل فرص وجوده ليعيش في طاعة الله ورضاه، لذلك يقول رسول الله( ص): "الدنيا ساعة فاجعلوها طاعة"[3]، والمعنى كن عاقلاً، واستثمر فرصة الوجود في الدنيا في طاعة الله تعالى.

يقول الإمام الكاظم ع: "إصبر على طاعة الله"، صحيح أن الطاعة فيها مشقة، والمشقة تحتاج إلى صبر وتحمل، ولكن جدير بالمؤمن أن يصبر ويتحمل ألم الطاعة ومشقتها، "وإصبر على معاصي الله"، صحيح أن النفس والهوى في العادة يطالبان الإنسان بالمعصية ومن الصعب على الإنسان أن لا يستجيب إليهما ولكن جدير بالمؤمن أن يتحدى النفس ويقاوم الهوى "فإنما الدنيا ساعة" والمفروض أن تحمل ألم ساعة في مرضات الله تعالى بسيط عند مَن يريد رضا الله سبحانه، قال ع “: اصبر على طاعة الله، واصبر على معاصي الله؛ فإنما الدنيا ساعة، فما مضى منها" أي من هذه الساعة "فليس تجد له سروراً ولا حزناً"، بمعنى أنك أعجز من أن تستطيع أن ترجع عقارب الساعة إلى الوراء، فالزمن الذي ذهب لا يعود، وأنت الآن لا تشعر بلذته ولا بألمه، فالدقيقة التي ذهبت من عمرك ذهبت بسرورها أو ذهبت بحزنها وأنت الآن تعيش دقيقة ثانية، الدقيقة الأولى لها حسابها والدقيقة الثانية لها حسابها، "فما مضى" أي من عمرك "فليس تجد له سروراً ولا حزناً" الآن؛ لأنه مضى بسروره أو بحزنه ولكن بقي حسابه، بقي جزاؤه إن خيراً فخير وإن شراً فشر، "وما لم يأتِ منها فليس تعرفه" ما هو؟ بل ولا تعرف أنه سيأتي أو لا يأتي، فأنت تعيش بين عدمين، زمان مضى وانعدم وأنت أعجز من أن تعيد وجوده، وزمان معدوم لم يوجد بعد وربما لا يوجد كما إذا قُدر لك أن تموت في لحظتك التي أنت فيها، فأنت وساعتك التي تعيش فيها الآن، فاصبر فيها على طاعة الله تعالى وتجنب معصيته، لذلك يقول ع” : فاصبر على تلك الساعة التي أنت فيها فكأنك قد اغتبطت"[4]، يقول الشاعر:


ما فات مضى وما سيأتيك فأَيْن * * * * * * قم واغتنم الفرصة ما بين العدمين

ماذا سيكون حالكَ أيها الإنسان فيما لو أخبرك الله تعالى عن طريق من الطرق بأن المتبقي لك من عمرك مجرد ساعة، ستين دقيقة فقط، فهل كنتَ ستعصي الله تعالى فيها؟ هل كنتَ ستظلم الناس وتنازعهم حقوقهم؟ هل كنتَ لتنشغل عن الموت بطلب الملذات وزخارف الدنيا؟ هل وهل؟ ما كنتَ لتفكر فيه في تلك اللحظة عليك أن تفكر فيه الآن لتنجو بنفسك، عليك أن تفكر في التوبة والرجوع إلى الله تعالى، عليك أن تفكر في الأعمال التي ترضي الله تعالى عنك وتجنبك سخطه، عليك أن تفكر بما يسعدك في دار الدنيا والآخرة، فالعاقل هو الذي يستثمر فرص الدنيا لسعادة الآخرة، فإن الفرصة إذا ذهبت قد لا تعود مرة ثانية، ومَن سوف التوبة إلى الغد ولم يأتِ عليه الغد بأن عاجله الموت فقد هلك وهوى.

أجارنا الله وإياكم من الدنيا وأخطارها، ومن التسويف وهلاكه، وأخذ بأيدينا إلى التوبة والرضوان، وطاعة الرحمن، إنه سميع الدعاء قريب مجيب.


الهوامش:

[1] شرح نهج البلاغة، للمعتزلي: م9، ج17، ص6.

[2] ميزان الحكمة، للريشهري: م3، حرف الدال، الدنيا، 1211- الحياة الدنيا، ح5739، ص1192.

[3] نفس المصدر: 1261- الدنيا ساعة، ح6047، ص1238.

[4] نفس المصدر: ح6048، ص1238