ربما كانت فترة الحجر الصحي الأخيرة كاشفة عن اتجاه كثيرين إلى يوتيوب، لإنشاء قناة وصناعة المحتوى. وبين صناعة المحتوى المعلوماتي وصناعة المحتوى الترفيهي، ينظر الجميع إلى يوتيوب نظرة إعجاب، ويطمحون في الشهرة اليوتيوبية إن صح القول، وجني المال عبر المشاهدات والاشتراكات في يوتيوب. فما سر إقبال الشباب على يوتيوب وإعجابهم به كمصدر للعمل وتحقيق الدخل؟ وهل تنحصر قيمة العمل في الدخل المادي الذي يحققه فقط؟
الأعمال المضنية والوعد بالثراء
يخبرنا المنظِّر الاجتماعي الألماني ماكس فيبر، أن مرحلة الحداثة، أو الانتقال من المجتمع من قبل الحديث إلى المجتمع الحديث الحالي، تتسم بعدة صفات، أبرزها العقلانية والبيروقراطية. ويقول إن النقود عبارة عن صيغة عقلانية مجرَّدة للسلع، ولا تحمل قيمة في ذاتها، بل تحمل قيمة مجردة، على عكس المعادن الثمينة كالذهب والسلع التي يستهلكها المرء. وبناءً على تلك الأطروحة، يتوقع ألا ينظر المرء للمال بصفته غاية، أو رغبة في ذاته، بل بوصفه وسيلة لشراء ما يشتهيه، وبالتالي الحصول على قيمة أو منفعة.
ولكن الوضع لا يبدو بهذه البساطة دائمًا. فقد يتحول المال إلى معبود، يسعى له المرء دون النظر إلى الاستفادة منه لعيش حياة مثلى. بل يتحول هَم الإنسان إلى اكتناز المزيد والمزيد من الأموال، مطاردًا حلم الثراء الذي سيجعل حياته جن كما يتمنى. ولهذا السبب، يتحول المرء أثناء بحثه عن العمل إلى المهن التي تجلب المال بأقل جهد ممكن، بغض النظر عن القيمة التي يقدمها هذا العمل لغيره من الناس.
الرأسمالية، بعد أن حولت الشيوعية إلى أضحوكة
ربما قرأت أثناء تصفحك للفيسبوك نبذة عن كارل ماركس، أو عن الاشتراكية، أو الشيوعية. وربما ضحكت على ميمًا ساخرًا عن هذا الموضوع أو ذاك، فمن هو كارل ماركس؟ وماذا قال عن الرأسمالية ؟
لم يكن كارل ماركس أول من تحدثوا عن النظام الاقتصادي الرأسمالي. ولكنه أول من أبرز عيوب هذا النظام بشكل عميق في كتابه الشهير ذي المجلدات المتعددة «رأس المال». تُعرَّف الرأسمالية بأنها نظام اقتصادي يقوم على امتلاك القطاع الخاص لوسائل الإنتاج بعد القطيعة مع الإقطاع، وتحول الثروات إلى الأفراد. وتعتمد الرأسمالية في جوهرها على حرية السوق التجاري لضمان المنافسة وازدهار الثروة، وتعتمد على الملكية الخاصة والاعتراف بالحريات والأجر نظير العمل.
للوهلة الأولى، يبدو النظام الرأسمالي عادلًا، إذ تستطيع من خلال العمل الجاد والاجتهاد جني المال وادخاره واستثماره أو إنفاقه على تحقيق رغباتك، على عكس الإقطاع الذي اتسم بالركود الاجتماعي، وفيه لا تستطيع الترقي الاجتماعي من طبقة لأخرى. ولكن كارل ماركس رأى شيئًا لم ينتبه له الجميع، إن العمل تحت مظلة الرأسمالية لا يحقق للعامل إلا حد الكفاف. يستغل صاحب رأس المال، أو البورجوازي، مجهود العامل، ويقتطع من عمله قيمة فائضة، ويعطيه مقابلها أجرًا، ولكنه أجر لا يكفي إلا لسد الاحتياجات الأساسية للفرد. كما أن العمل يستهلك أغلب وقت العامل، فلا يترك له وقتًا خاصًا لنفسه أو لهواياته أو لزوجته وأطفاله.
لكي يستطيع المرء الحفاظ على متطلباته الأساسية، يتحتم عليه أن يعمل في هذه الظروف، لجني ما يكفي من المال للطعام والشراب والسكن والصحة. وهذا يدفعه إلى القبول بالظروف المهينة التي فرضها عليه أصحاب العمل، والابتعاد عن تنمية مهاراته الذاتية، فذلك الأمر ليس إلا رفاهية بالنسبة إلى كثير من الناس. ومن المنطقي في ظل تلك الظروف أن يبحث الجميع عن أسهل الطرق لجني المال، بغض النظر عن القيمة.
الرأسمالية المتأخرة وما بعد الحداثة: صناعة الثقافة
ربما يطرأ على الذهن أن الرأسمالية المتأخرة مصطلح معبر عن مرحلة أخيرة من الرأسمالية تتلوها مرحلة أخرى. ولكن، على النقيض، لم يكن مصطلح الرأسمالية المتأخرة ماركسيًا، ولكنه نشأ على يد المفكر الاقتصادي الألماني فيرنر سومبارت، واكتسب معناه على يد إرنست ماندل، الذي صكه ليصف به المرحلة الممتدة بين الحرب العالمية الأولى وسبعينات القرن العشرين، تلك الفترة التي اتسمت بالتطور الصناعي الهائل وتضاخم الثورة.
اكتسب المصطلح شهرة واسعة في الإعلام الغربي عندما استخدمه المحلل الاقتصادي الاجتماعي فريدريك جامسون في مقالته الشهير «ما بعد الحداثة، أو المنطق الثقافي للرأسمالية المتأخرة». يرى جامسون أن المصطلح يرتبط بصورة وثيقة بـ ما بعد الحداثة، وما بعد الحداثة مرحلة زمنية تعبر عن حالة ثقافية وفكرية واجتماعية تلعب فيها وسائل الإعلام «الميديا» دورًا بارزًا، وتتشظى فيها الهويات الاجتماعية. كما ترتبط بظاهرة العولمة والشركات الرأسمالية العملاقة متعددة الجنسيات والمنتجات العابرة للقارات والنزعة الاستهلاكية.
يرى جامسون أن العلاقة بين الرأسمالية كمنظومة اقتصادية وما بعد الحداثة كترتيب اجتماعي علاقة تعزيز متبادل. فما بعد الحداثة يخلق نوعًا من «الثقافة الجمعية» عبر وسائل الإعلام العملاقة، وخلال تلك العملية يقوم بنوع من الهيمنة على أفكار الأفراد والسيطرة على الطريقة التي يعيشون حياتهم بها. وتؤدي هذه الهيمنة الثقافية في نهاية المطاف إلى ترغيب الناس في الاستهلاك عبر المحتوى الإعلاني، وبالتالي دفعهم إلى مزيد من العمل بشروط الرأسمالية، أي لجني الأموال فقط.
جيف بيزوس، جنون الرأسمالية المستحب
في ظل أزمة الوباء العالمي، تدهورت الكثير من الاقتصادات حول العالم، ومنها أقوى اقتصاد في العالم، اقتصاد الولايات المتحدة نفسه. وتبعًا لتقديرات بلومبيرغ، فإن أكثر من 49 مليون أمريكي قد ملأوا وثائق البطالة، أي فقدوا وظائفهم منذ بداية الوباء حتى الآن. وفي هذا الوقت العصيب الذي مر على أغلب ساكني الأرض، كان المدير التنفيذي ومؤسس شركة أمازون العملاقة يجني أرباحًا غير مسبوقة، ووصلت ثروته إلى 200 مليار دولار، إذ زادت في فترة الوباء لهذه السنة فقط بمبلغ 87.1 مليار دولار.
بتأمل بسيط لهذا التفاوت بين نموذجين من الناس، أغنى 1% من العالم تزدهر ثروته حتى عندما يتأزم 99% من العالم. لقد انتبه ماركس لهذا التفاوت الطبقي المرعب. ففي ظل الرأسمالية، يزداد الثري ثراءً، ويزداد الفقير فقرًا، ويصعب على المرء الخروج من عنق الزجاجة لينعم بالثراء أو حتى اليسر الإنفاقي إلا بصعوبة بالغة ومعوقات عديدة.
وليست جوجل ببعيدة عن هذه الفقاعة الرأسمالية العملاقة الجامعة لتلك الشركات متعددة الجنسيات، التي تسعى بدأب لتحويل الأرض إلى نفاية استهلاكية عملاقة بتعبير زيجمونت باومان، بل لا تخفي اهتمامها بالحياة على كواكب أخرى لأن هذه الأرض لن تصلح للحياة في المستقبل القريب بسبب أفعال نفس الشركات التي تهيم في الفضاء. وكيف تكتب مجلة فوربس الشهيرة التي تصنف جيف بيزوس كأغنى رجل في التاريخ، مقالًا تنصح فيه المتابعين بالزهد والتخلي عن الرغبة المستمرة في اكتناز الأموال مقابل حياة بسيطة ممتلئة بالحب والعلاقات السوية؟ فهكذا يصير التفاوت الطبقي واضحًا، حتى في المقالات، ويصير البحث عن المال رغبة الأثرياء فقط، أما نحن، فالزهد لنا، والمال نتركه للآخرة.
العمل: قيمة أم مال ؟
في مقالة بارزة نشرتها مؤسسة «هارفارد بيزنس ريفيو» بعنوان «9 من كل 10 من الناس يسعون إلى راتب أقل مقابل عمل له معنى»، يكتب الكُتاب: «يتعلق العمل بالـ[بحث] كما يتعلق بالمال، أنه سعي يومي للمعنى كما أنه سعي للقمة العيش، للتعبير عن الذات. أجرى الباحثون استطلاعًا على 2285 موظفًا أمريكيًا محترفًا عبر 26 صناعة مختلفة، باختلاف الرواتب التي يتقاضاها هؤلاء العاملون، وحجم شركاتهم، وديموغرافيتهم».
وجد الباحثون 9 من بين كل 10 على استعداد للتخلي عن جزء من رواتبهم المادية في مقابل الحصول على معنى خلال العمل الذي يمتهنونه. لقد افتقد هؤلاء- العاملون بالفعل- لأهمية المعنى والقيمة التي يضيفها العمل في حياتهم الشخصية وفي حياة الآخرين، وكانوا على وعي بالمساواة بينه وبين المال. يعبر يوتيوب عن مزيج فريد بين التعبير عن الذات وجني المال، ظنًا من مقدم المحتوى أنه يقدم شيئًا سهلًا- وهذا ربما غير صحيح- يفسر ذلك إقبال الشباب والصغار للعمل في صناعة المحتوى المرئي.
ولكن، كأي سلعة أخرى معروضة للبيع في ظل الرأسمالية، تخضع لقواعد التسويق. يعمل تسويق السلعة على التوفيق بين رغبات المستهلك والصناعة، وتسخير الإنتاج ليشبع رغبات المستهلك، بل قد يصل إلى التلاعب بتلك الرغبات لدفعها إلى المنتج. ويخضع صانعو المحتوى في يوتيوب لنفس المنظومة، نفس المنظومة القاتلة للمعنى أحيانًا.
الحياة الهانئة، مفهوم متشابك وسؤال صعب
«الحياة غير الخاضعة للمراجعة الفكرية لا تستحق أن تُعاش»
- سقراط
لقد كان سؤال ما الذي يجعل الحياة تستحق أن تُعاش سؤالًا فلسفيًا منذ سقراط وحتى ألبير كامو والفلاسفة المعاصرين. تدفعك جملة سقراط إلى التفكير بحد ذاتها، فإذا كانت هناك حياة تستحق أن تُعاش، فهل هناك حيوات لا تستحق أن تُعاش؟ ربما لن يهتم شخص هانئ بحياته بكثير من تلك التساؤلات ويراها مضيعة لوقته الثمين، ولكن ربما يهتم بها الحائر، الذي قد لا يدري أيستمر في دراسة مملة أو عمل رتيب، من أجل غاية أكبر، أم أن الشعور بالمتعة ضروري؟ أم أن المعنى والقيمة تفوق المتعة درجة ومنزلة ؟
إن السعي إلى تحصيل المال مهم، بل إنه مهم من الدرجة الأولى. ربما ليست الدعوة إلى الزهد إلا خداع أيديولوجي في عالم تحكمه لغة المال. ولكن العمى عن كل شيء عدا المال تضيع المعنى من حياة الإنسان، تمامًا كما يضيع الجوع حياته إذا كان فقيرًا. لقد أدرك الدكتور فيكتور فرانكل أن «الإنسان يبحث عن المعنى»، وأنه ربما يتحمل أقسى الظروف وحشية ولا إنسانية إذا كان لحياته معنى، وربما يشعر بالخواء المطلق ويرغب في إنهاء حياته، إذا اختفى المعنى منها، حتى إن امتلك كنوزًا وأموالًا لا تحصى.
محمد إيهاب - أراجيك