يكشف التحرّر الثقافي في العراق عن تيارين متصارعين، الأول محافظ يرفض مغادرة إرث عميق من النمطيات الاجتماعية، والتقاليد، التي يستند اليها في إرساء احتكاره للحقيقة المطلقة، والثاني تيار رافض يسعى الى إبدال انقلابي وسريع، ويستعجل الوقت لعصيان الرموز الثقافية والعرفية والاجتماعية، فضلا عن السياسية.

الغلواء الذي يمارسه التياران، ينطلق من مجسّات مفترضة بالتهديد الوجودي، بدلا من التعايش ما يؤدي الى انكماش في السلوكية الثقافية، تجاه ثوابت ورثها كلاهما من الإباء، لكنهما يمارسان إسقاطا متنافرا عليها.


أحد أسباب المخاوف التبادلية، هي التربية الجمعية التي تستند الى الأحادية، الواقفة على قاعدة متينة من الإقصائية للآخر، وركنه وتهميشه، والعمل على جعله لاقطا ماصا لثقافة المكون العضلي، ثم تفتيته تدريجيا، لكن ذلك اثبت بالتجربة عدم جدواه، لان الثقافات المستضعفة في صراعات الوجود، تصمد بقوة للحفاظ على الوجود، وفي حالات عدم أرجحيتها على ذلك، تضطر الى الهجرة.

المحيط العراقي الذي احتضن تنوع الثقافات، أصيب أيضا بداء التطرف والنرجسية الذي ضرب مجتمعات كثيرة في العالم، فثمة تيارات محافظة تخشى الثقافة الغربية، بشكل مطلق، معتبرة ان كل المشاكل المتولدة ناجمة من التغيير والتحرر، فتعمل بلا هوادة على تعطيله، دون إدراك ان الثقافات المستوردة لها محاسنها الكثيرة.


والعكس صحيح أيضا، اذ تتربّص قوى الانفتاح بالقوى المتجذرة، الاجتماعية والدينية، وتعتبرها عدوا لها، ويعتقد أولئك الذين يُصنّفون بانهم تقدميون، أن المشاكل حتمية لا يحلّها سوى التغيير الثوري، متجاهلة حقيقة ان الكثير من الثوابت الأخلاقية والسلوكية، هي مصنع جيّد لعادات وتقاليد إيجابية.

هذا الافراط في الموقف، جعل من المنكمش على ثقافته، متحفزا ضد المتمدّد عليه، خوفا على هويته، في جانب متصل بهذا الصراع، ظهرت العولمة، التي تعتبرها القوى المحلية المحافظة لدى الكثير من الشعوب، مؤامرة،
تستهدف العقل الثقافي النوعي لكل شعب، وتحويله الى اسفنجة تمتص مبادئ الثقافة الغربية المسيطرة، وقد أدى تصنيف العولمة كمؤامرة لدى الكثير من العقليات المحافظة، الى التقوقع أكثر على النفس، وتكوين صدفة متمرسة تصدّ الهجمات الثقافية، الأمر الذي خلّف فجوة واسعة في التفاهم والحوار بين الحضارات.


الشكّ الحضاري والثقافي والعقائدي بالآخر، اثّر على الوعاء الفكري للمواطن، الذي شهد انكماشاً في الأعوام القريبة الماضية، وبدأ لا يخوض في الملتقيات والجسور الثقافية الموصِلة بل في العٌقد والمفترقات الثقافية مع الطرف النقيض، وصولا الى قطيعة مطلقة.

أحد الأمثلة على ذلك، يتجلى في الكتب المعروضة الجاذبة للعقلية الجمعية، فهي اما متطرفة عقائديا، او منفتحة بطريقة تصل الى مستوى الانشقاق والتبرأة من الثوابت المحلية في السلوك والتفكير، فيما الكتب التي تحمل في بطونها الأفكار المعتدلة، والتي تعالج الموضوعات الفكرية بمهنية، متداولة بين النخب القليلة فقط.


في مدونة في تشرين الثاني (نوفمبر) 2011، وصف روبرت رايش، أستاذ السياسة العامة في جامعة كاليفورنيا في بيركلي، معاناة الاختلافات الثقافية بين المحافظين والمجددين حتى في الولايات المتحدة، مركزا على حماس البعض في جعل المعتقدات حقائق مسلم بها، وان على الجميع قبولها، معتبرا ان البعض نسي الحوارات الطويلة حول نظرية التطور، ونظرية علم المناخ، والتي انتهت الى خلاصة مفادها ان علينا الاستماع الى بعضنا.
وإذ ينتقد رايش دعاة إخراج العلم من التعليم واستبداله بالدين، او دحر الحريات الدينية واستبدالها بثيوقراطية مسيحية أحادية، او الخلاف على تصويت النساء، فانه يعتبر ان كل معضلة فكرية او اجتماعية قابلة بالحل، اذا قبل المتصارعون، التراجع عن المواقف في لحظات انكشاف الحقائق، والتخلّص من الأفكار المهملة.
في العراق، يجب عدم السماح لتيارات الاعتدال بالانقراض، وان يتطبّع الانسان على كيفية تعزيز الثقة بنفسه وفكره في أوقات الشكوك الكبيرة.