منذ سنوات ونحن نتحدث بهوس غريب عن مصطلح (ما بعد)… ما بعد الموت، ما بعد الحداثة، ما بعد الفلسفة، وما بعد كورونا. وكأن (ما بعد) أصبحت لصيقة مع حياتنا، ومصطلحاً علميّاً يجوب العوالم والكتب والجامعات والدراسات العلمية والثقافية، بل أصبح مُوضةً ثقافية مثل مُوضة الأزياء والإكسسوار، ومارِكَةً للمثقف والمفكر لكي يتباهى بها في كتاباته، وتعطيه امتيازاً على رفعة ثقافته ومنزلته.

اليوم تمتلئ الأدبيات الصحية والاجتماعية والإعلامية بهذه الكلمة، وصارت وكأنها المرض نفسه، مثلما كثر المنجمون وقارئو الطوالع للحديث ما بعد كورونا، ومنهم من يحاول التمسك بأهداب الدرس والتحليل العلمي لاكتشاف المستقبل من خلال قراءة معطيات الواقع المعيش، ووضع سيناريوهات للتفاؤل أو التشاؤم أو بقاء الأوضاع كما هي.

لا نعترض على التنبؤ بالمستقبل، ولا على فكرة (ما بعد كورونا)، فهي من واجب أهل الفكر والعلم في تقديم السيناريوهات المتوقعة، لأن التنبؤ ليس عليه جمرك، كما يقال، بل العكس هو تقديم خدمة للبشرية في التحضير لقادم الأيام، وإيجاد الحــلول لمستقبل أجمل. وقصة الفايروس اليوم وما أحدثه من رعب نفسي في العالم، وما تركه من آثار سيئة على الاقتصاد والحياة، كان يمكن أن يمر دون هذا الزلزال المدوي الذي هز العالم بقوته الجبارة، لولا هذه الوسائل الاتصالية السريعة، وهذه الأقمار الصناعية التي تفزع البشر بالصور المتوالية، وهذا السباق المحموم في نشر المعلومات والفيديوهات والصور والإشاعات وصوَر التضليل، والدليل على ذلك أن ما حدث عام 1918 من انتشار الأنفلونزا الإسبانية التي تعد أكبر جائحة في التاريخ الحديث، و(الكارثة الطبية الأشد فتكاً في العالم) حسب وصف الأطباء، وخلّفت ملايين الضحايا، لم يعلم بانتشارها سوى الإسبان في البداية، أما أوربا فلم يسمع بها إلا عدد قليل من مواطنيها، ولم تعش رهبة الفيروس رغم قوته التدميرية وآثاره القوية، ولو حدث هذا الأمر في عصرنا، وبنفس قوة المرض وضحاياه، لرأينا اليوم صورة القيامة التي نقرأها في قصص القرآن من فزع لا يمكن وصفه بالحروف!
وبقدر ما ضخم الإعلام صورة الخفافيش الصينية، وأثار زوابع وهمية لكسب المتلقي، فإنه أيضاً أصبح تحت رحمة الحكومات، وتم وضعه في الحجر الصحي، وحسبما ذكرت منظمة (مراسلون بلا حدود) فإن بعض الحكومات حاولت إخفاء الحقائق عن مدى انتشار الجائحة والتلاعب بالتقارير، أو عمدت إلى نشر أخبار زائفة، وإعاقة عمل العديد من الصحفيين الذين تعرضوا للتهجم والتحقيق، وأحياناً حتى للاعتقال. كما عبرت عن قلقها من استخدام حكومات بعض الدول لأزمة كورونا كذريعة لتحجيم حرية الإعلام، فوضعت قيوداً على حق الوصول إلى المعلومات، إلى جانب مراقبة المحتوى الإعلامي، وملاحقة الميديا المستقلة، تحت ذريعة ترويج معلومات كاذبة أو أخبار ملفقة للتشكيك بصدقية مؤسسات الدولة بما تقدمه من معلومات.

أما التحدي الأخطر فهو سلامة الإعلاميين، ففي السابق كان المراسل مسؤولاً عن حياته، والآن أصبح هو المسؤول عما يقدمه إضافة إلى مسؤوليته عمن يخالطه، لذلك بات الصحافي من أوائل المتأقلمين مع الوضع الجديد، وجنباً إلى جنب مع الأطباء والمعالجين الصحيين، في خطوط النار الأمامية. مما سبب تعرُّضهم لعبءٍ نفسي، وضغط كبير، في محاولة توفير جمع المعلومات اللازمة حول فيروس كورونا في العالم، في الوقت الذي يعانون فيه من عبء آخر وهو الخوف من انتشار العدوى، خاصة للإعلاميين المضطرين للنزول إلى الشوارع، والذين يُجرون لقاءات مباشرة من الشوارع والمستشفيات.
وهناك تحدي مضمون الرسالة الإعلامية، فقد لوحظ ظهور ثلاثة أنواع من المعالجات الإعلامية في زمن كورونا، هي: المعالجة المثيرة، والتي تتعمد التضليل والتشويش، والمعالجة الناقصة، وتعتمد على التهوين من قيمة المعلومة، والمعالجة المتكاملة المعتمدة على الشفافية والصدقية في الطرح. كما لوحظ أيضاً أن وسائل الإعلام التقليدية أصبحت مصدراً مهماً للجمهور، مع أن شبكات التواصل الاجتماعي كسرت الاحتكار شبه الكامل للأخبار مِن قِبل وسائل الإعلام.


ويشير بحث لمديرة تطوير البحوث والبيئة في كلية الصحافة بجامعة كارديف البريطانية، إلى أن الخوف كان السمة الأبرز في محتوى كل وسائل الإعلام في تقديمها لجائحة كورونا المستجد، حيث ساهمت هذه الأخطاء التي ربما تكون بنظر البعض ممكنة وقابلة للتعويض أو التراجع، في أضرار مباشرة على أشخاص كثر؛ فالخوف سيجعل المتلقي يشعر بالذعر، ومن ثم سيدفعه لفعل أشياءَ أسوأ، كتعميم الشائعات أو الوقوع فريسةً لها، أو إلقاء اللوم على مجموعة معينة ومعاملتها على هذا الأساس.
ويتفق الكثير من الباحثين على أن الإعلام التقليدي سيواجه بعد جائحة كورونا أزماتٍ تخص الاستمرارية والتمويل بسبب ضعف الاشتراكات والإعلانات، وهذه التحديات ستواجه الإعلام التقليدي الحكومي والخاص على حد سواء. لكن يبدو أن وسائل الإعلام ستُمْنَى بخسائرَ اقتصادية كبيرة نتيجة لتراجع عوائد الإعلان، وصعوبات عمليات الإنتاج. فقد تتوقف بعض الصحف المطبوعة عن الصدور تحت وطأة الأزمة المستجدة التي تضافرت مع المشكلات المزمنة، وستقلّص بيوت إنتاج كبرى عملياتها، وسيتم صرف بعض العاملين. ولاندري متى تستمر قصة (الحبل على الجرار) كما يقال!

ومع كل التحديات السلبية، هناك في الأفق آثار إيجابية للإعلاميين ولصناعة الإعلام حسب توقعات البحوث والدراسات المستقبلية؛ فهذا الفيروس سيشجع الصناعة على إجراء تغيير جذري في آليات عملها، وصولاً إلى ما يمكن وصفه بأنه (نموذج أعمال جديد)؛ حيث سيتم تخفيف أعداد العاملين، والاعتماد على مناوبات لبعض الوقت، والسماح لأعداد كبيرة من الكوادر بالعمل من المنزل، والقيام بتغطيات ميدانية عن بعد، كما سيتم إعادة صياغة أولويات الجمهور وصناع الأجندات الإعلامية، بعيدا عن المعالجات الترفيهية والأخبار الخاطفة للاهتمام والخالية من المعنى. ويمكن أيضا إعادة الاعتبار لوسائل الإعلام الموصوفة بـ(التقليدية) في مواجهة تلك المعروفة بـ(الجديدة) من ناحية المصداقية ونوع المحتوى، حيث يكون الجمهور أكثر حرصاً على تدقيق ما يرد عبرها، وأبعدَ عن الوقوع ضحية لشططها.

ومثلما غيرت الجائحة مفاهيم سلطة المال والاقتصاد من جديد، فإنها صنعت أفكارا جديدة لعمل الإعلامي، وابتكرت للمتلقي خرائط للعقل لاختيار الأولويات، وتنظيم الأفكار وإلقاء الضوء على الزوايا المظلمة. المهم أن يعمل الدماغ البشري بطريقة واعية مع المعلومات دون خوف، وليس كما يحدث اليوم؛ فلا نهار يسعد المتلقي، ولا ليل يسر الأحبة، الكلُّ مرعوب، عاطلٌ ومعطَّل!